2008/08/13

حرب المشاريع أم توزيع للأدوار؟

حرب المشاريع أم توزيع للأدوار؟


بقلم: سالم الحداد /تونس

ما أن هدأت حرب مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي سوّق له الرئيس بوش الابن حتى أطل علينا الرئيس نيكولا ساركوزي بمشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» . وقد أخذ المشروع الأول حظه من التحليل والنقاش مما سمح بالكشف عن خلفيته الإمبريالية فآل إلى السقوط أو يكاد، وقبل أن يسقط بقلم المفكرين فقد سقط ببندقية المقاومين. وكما أسعفني الحظ أن أكون ضمن المساهمين في التعريف به ومقارنته بجملة المشاريع السياسية والاجتماعية والحضارية التي ظهرت في منطقتنا طوال القرن العشرين بداية من المشروع الليبرالي والاشتراكي إلى المشروع القومي والإسلامي، فسأحاول مرة أخرى أن ألقي بعض الأضواء الكاشفة على المشروع الفرنسي من حيث منطلقاته وأبعاده وآلياته وملابساته وبالتحديد خلفيته. وحتى نتبين ذلك لابد أن نتساءل: ما هي الظرفية التي ظهر فيها ؟ ما علاقته بمسار برشلونة الذي ظهر في منتصف التسعينات؟ هل هو وأد أم إحياء له؟ ما هي الأهداف التي يروم تحقيقها؟ هل يتنزّل ضمن إستراتجية فرنسية أم ضمن تصور أوروبي أشمل؟ ما علاقته بمشروع بوش؟ هل هناك اتفاق غير معلن لتقاسم المنطقة العربية وثرواتها كما حصل في اتفاقية سايس/ بيكو، فيكون جنوب المتوسط الغني بالغاز والفوسفاط من نصيب أوروبا وتكون منطقة الخليج الغنية بالبترول من نصيب أمريكا؟ أم إنه صراع مفتوح بين قطبين يحرص كل منهما على أن يحتفظ بمصالحه في مناطق نفوذه التاريخي وأن يتوسع على حساب الآخر؟

أولا: حفر في الذاكرة
لم يكن مشروع الاتحاد من اجل المتوسط هو أول مشروع تخطط له فرنسا في الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط فقد سبقته العديد من المشاريع على امتداد أكثر من قرن، وهي وإن تنوعت من حيث الأشكال فإنها جميعا تشترك في ثابت واحد وهو دور فرنسا التاريخي في المنطقة باعتبارها وريثة الإمبراطورية الرومانية والكنيسة الكاثوليكية ، وانطلاقا من هذه القناعة فإن احتلال الجزائر (1830) الذي تمّ بعد أربعين سنة فقط من الثورة الفرنسية (1789) لم يغير إستراتيجية الشمال نحو الجنوب، فغلاة الاستعمار الفرنسي يعتبرون السيطرة على منطقة المغرب العربي هو استرجاع لدور روما وفي هذا الإطار قامت سلطات الاحتلال بثلاثة مبادرات سنة 1930
ـ الاحتفال بمرور قرن على نجاح فرنسا في» تمدين الشعب الجزائري» ونصف قرن على احتلال تونس
ـ عقد المؤتمر الافخارستي الكاثوليكي بمدينة قرطاج باعتبارها عاصمة إفريقيا المسيحية
ـ الترويج لمشروع التجنيس في تونس بعد ركزت دعائمه في الجزائر بحجة خلق نوع من التوازن مع الجالية الإيطالية التي فاقت عدديا الجالية الفرنسية.
أما المغرب الأقصى فقد أعدت له مشروعا أخطر يستهدف تمزيقه ألا وهو الظهير البربري. ولتحقيق هذا الغرض وظفت علماء التاريخ واللغات والأجناس والآثار والأديان للبحث عن بقايا للجنس البربري ولغته وتاريخه فقسموا المغرب ومن ورائه كل المنطقة إلى سيبة سكان الأرياف ومخزن سكان المدن) وقالوا: إن هؤلاء هم العرب وأولئك هم البربر. وإلى يوم الناس هذا فإن فرنسا لم تتخل عن دعم الجماعات الانفصالية في الجزائر والمغرب سواء من خلال الجامعات ومراكز البحوث أو الجمعيات المتدثرة بالنشاط الاجتماعي والثقافي.
وقبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقاسم تركة الخلافة العثمانية « الرجل المريض « فعقدتا مـا عُرف «بمعـاهـدة سايس/ بيكو « فكانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا والعراق وشرق الأردن من نصيب بريطانيا، أما فلسطين فقد وضعت تحت الوصاية الدولية تمهيدا لتسليمها للحركة الصهيونية.
ومع ظهور حركات التحرير في الأربعينات والخمسينات واقتناعها بحتمية تصفية التركة الاستعمارية أطلت بمشروع جديد يحافظ على استمرارية مظلتها فلوحت بإقامة» الاتحاد الفرنسي « الذي سيضم المستعمرات الفرنسية بما في ذلك أقطار المغرب العربي الذي ستجد فيه بديلا عن الجامعة العربية التي كانت تتوق إلى الانخراط فيها عند الاستقلال. وكانت فرنسوبعد أن استقلت مستعمراتها بالبندقية والدم كما وقع في الفيتنام وفي أقطار المغرب العربي وبالتحديد في الجزائر أو بالسياسة الوقائية كما وقع في العديد من الدول الإفريقية، فإنها نسجت على منوال أختها العدوّة بريطانيا وأسست منظمة الدول الفرنكوفونية للناطقين بالفرنسية على غرار الكومنولث البريطاني، فالاستعمار لا يفوت أية فرصة ولا يفرط في أي خيط ولو كان عكنبوتيا يدعم حضوره حسا ومعنى.
فالمشكل بالنسبة لدول الشمال وبالتحديد لفرنسا هو : ألا تتحول وجهة أقطار المغرب إلى أقطار المشرق فتمتد جسور التواصل وتنهض وحدة يمكن أن تشكل خطرا على مصالح الشمال في الجنوب، لذا كانت تحرص دوما على أن تكون دول المنطقة الجنوبية ضعيفة وتابعة. ذاك هو الهدف الإستراتيجي الثابت الذي مازال يسكن القوى الاستعمارية والذي يتحكم في كل المشاريع الغربية القديمة والحديثة.
وحتى ندرك ذلك علينا أن نعود إلى مشروع ساركوزي لعله يسعفنا ببعض المعطيات التي تؤكد هذه الحقيقة . فما هو محتواه وما هي خلفيته وفيم تتمثل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ؟ ا تعتبرها مشروعا بريطانيا هدفه اختطاف أقطار شمال إفريقيا منها.
قبل أن نُقيّم مشروع ساركوزي لابد أن نتعرف على سياسة التعاون بين الشمال والجنوب والتي عرفت بالشراكة الأوروبية المتوسطية EURO MED والتي تجسدت في اتفاقية برشلونة التي لم تحقق الأهداف المرجوة، والتي جاء مشروع ساكوزي بديلا عنها. فما محتوى هذا المشروع؟ ما العوامل التي حالت دون نجاحه؟ ما علاقته بالمشروع الأوروبي المتوسطي؟ هل وأد أم تواصل له ؟
ثانيا ـ مسار برشلونة : لماذا وكيف ؟
بسقوط جدار برلين سنة 1989 انتهت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي ورفع المعسكر الغربي راية انتصار الليبرالية كخيار وحيد في المستقبل، وبرزت الولايات المتحدة كقطب أوحد يرسم خارطة الطريق للعالم أجمع . ومع بداية التسعينات بدأت تعمل على إعادة صياغة علاقة المنتظم الدولي بما يضمن استمرارية سيطرتها، فكان لابد من إطفاء بؤر التوتر التي مازالت ملتهبة. وكان الوطن العربي من أهم جيوب المقاومة فتوخت معه سياسة العصا والجزرة، فكانت حرب الخليج الثانية وتدمير الجيش العراقي ثم كانت اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني . غير أن حلفاء أمريكيا الغربيين ـ مع تسليمهم بدورها القيادي ـ يرفضون أن يتخلوا عن مواقعهم التقليدية الإستراتيجية . وفي هذا الإطار يتنزل اتفاق برشلونة الأسبانية الذي عقدته دول الاتحاد الأوروبي مع الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط من جهته الجنوبية والشرقية سنة 1995 .
وكان منطلقها أن منطقة المتوسط مصدر للتحديات الخطيرة وللثروات الوفيرة
فهو مصدر لثقافة إسلامية تفرخ الإرهاب ولشعوب فقيرة يتدفق منها المهاجرون الجائعون . وهو من ناحية أخرى مصدر للنفط والغاز والطاقة الشمسية والإنتاج الفلاحي .
إن هذه الرؤية المزدوجة تجعل الشمال يسارع لاحتواء المنطقة خوفا من أن تتنامى أخطارها وخوفا عليها من أن تسقط في أيد معادية.
فبمقتضى هذه الاتفاقية تتولى دول الشمال ومؤسساتها البنكية ضخ مبالغ مالية لفائدة دول الجنوب لإعادة بناء اقتصادها بما يتلاءم مع سياسة العولمة، وفي المقابل تلتزم دول الجنوب بضمان الأمن والاستقرار في بلدانها بإدخال إصلاحات اقتصادية وسياسية وثقافية توفر مواطن الشغل وتوقف زحف المهاجرين وتحسن ظروف عيش المواطنين وتخفف من أسباب الاحتقان. فهي مطالبة ب:
ـ إعادة هيكلة اقتصادها وتأهيل مؤسساتها حتى تكون قادرة على المنافسة عندما تفتح البلاد حدودها لحرية تنقل المال والأعمال والبضائع والخدمات وتنتصب المناطق الحرة التي ترفع عنها كل القيود في نطاق فضاء اقتصادي للتبادل الحر، بحلول سنة 2010
ـ إدخال إصلاحات سياسية في اتجاه دمقرطة الحياة السياسية والإقرار بحقوق الإنسان والتعامل الإيجابي مع منظمات المجتمع المدني. وقد حاولت المؤسسات الأوروبية ألا يقتصر تعاملها على القنوات الرسمية فمدت الجسور مع بعض منظمات المجتمع المدني لكن الأنظمة أفشلت في هذا المسعى.
ـ القيام بدور الحاجز الأمني الذي يمنع تدفق المهاجرين من الجنوب نحو الضفة الشمالية فيقيها مخاطر الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ـ مراجعة البرامج والمناهج التربوية في اتجاه انفتاح المؤسسة التعليمية على المجتمع الاستهلاكي والحد من فاعلية عناصر الهوية التي تحول دون الاندماج في العولمة.
وبعد عقد من الزمن أي في نوفمبر 2005عُقد في برشلونة مؤتمر قمة تقييمية حضره رؤساء الدول الأوروبية وقاطعه الرؤساء العرب . وقد تأكد في هذا المؤتمر أن هناك أزمة داخل الاتحاد من أهم أسبابها :
ـ إن وجود الكيان الصهيوني ضمن اتفاقية برشلونة كان من أهم المعوقات أمام التواصل الاقتصادي، فالطرف العربي مازال رافضا للتطبيع مع هذا الكيان ومؤسساته الاقتصادية ما لم يقع التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية
ـ أن دول الاتحاد الأوروبي وجهت اهتماماتها الاقتصادية نحو دول الاتحاد السوفيتي التي تهاوت كأوراق الخريف في التسعينات فأعطتها الأولوية في التمويلات ولم تضخ لدول الجنوب إلا ربع المبالغ التي تعهدت بها. ويمكن أن نتبين درجة التأخر في برامج التمويل عن طريق ميدا I حسب ما قدمته اللجنة الأوروبية في الاجتماع الرابع لمسار برشلونة بمرسيليا سنة 2000، كما يلي : من إجمالي3.435 مليار أورو المخصصة لبرامج ميدا I في الفترة من (1995 - 1999) لم يدفع منها إلا 890 مليون أورو فقط، أي ما يقارب 26 بالمائة من المبلغ المخصص، وتصل النسبة في التعاون الثنائي إلى 20 بالمائة فقط باستثناء الأردن وتونس اللتين تحصلتا على 40 بالمائة.
ـ أن دول المتوسط لم تدخل الإصلاحات التي التزمت بها في اتجاه الممارسة الديمقراطية والإقرار بحقوق الإنسان
ـ إن قوارب الموت مازالت تمخر عباب البحر ناقلة آلاف المهاجرين الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلدانهم.
تلك هي أهم العراقيل التي حالت دون نجاح اتفاقية برشلونة، فكيف حاول ساركوزي أن يتحاشها في مشروعه الجديد؟ وهل كان ذلك كافيا لنجاحه؟
ثالثا ـ مشروع ساكوزي:الاتحاد المتوسطي
أعلن ساركوزي عن مشروعه في 7 فيفري 2008 في مدينة طولون خلال لدورة الثانية من حملته الانتخابية وقدمه بمحتوى جديد وصياغة جديدة لا توحي بأية علاقة بين المشروعين ويتجلى ذلك من خلال العناصر التالية:
1 ـ التسمية:حملت الشراكة الأوروبية المتوسطية عنوانا جديدا هو «الاتحاد المتوسطي»
2 ـ الأهداف :
تتمثل الأهداف المعلنة في:
ـ تقليص الفوارق المجحفة التي تباعد بين دول الشمال ودول الجنوب اقتصاديا وعلميا وثقافيا.
3 ـ آليات العمل
يكون الاتحاد تحت رئاستين : شمالية تسند لفرنسا وأخرى جنوبية تتولاها مصر بصفة دورية كل سنتين. وتديره أمانة دائمة تسند مرحليا للمغرب يكون مقرها في تونس.
4 ـ مجالات التعاون وكيفيته
أ ـ نسق عام
ـ بناء نظام متوسطي جديد من شأنه أن يحسم مع مسار برشلونة وذلك بتضمنه لإقامة نظام أمن جماعي وشراكة في عملية التنمية ونقل التكنولوجيا وبنك للاستثمار وجامعة مشتركة وفضاء قضائي مشترك فضلا عن مشاريع جهوية كبرى خاصة بالمحيط واستغلال الطاقة الشمسية، التربية والتراث .
ب ـ مجالات عملية
وقد اقترح ساركوزي التعاون في ميادين عملية محددة مثل : تطهير البحر المتوسط ،الأمن ، الهجرة ، الطاقة النووية، المياه ، ربط الضفتين بطريق سيارة بحرية التعليم والثقافة.
5 ـ كيفية التعامل
أ ـ التعاون والمساواة
حاول ساركوزي أن يشعر دول الجنوب بأن الشراكة بين الدول الأعضاء لا تقوم على التبعية بل على التعاون والمساواة وتوزيع المهام وبالتالي التكامل . فمهمة دول الشمال هي ضخ رؤوس الأموال ونقل التكنولوجيا، أما مهمة دول الجنوب فهي توفير الطاقة خاصة من البترول والغاز والفوسفاط.
ب ـ التخلي عن القضايا الشائكة المحرجة
إن أهم إضافة قدمها ساركوزي كانت على مستوى التعامل السياسي فعلاقات التعاون لم تعد تتوقف على مدى التزام حكومات الجنوب بالممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان أو حتى الاعتراف المباشر بالكيان الصهيوني، فقد ظهر على الساحة الجنوبية خطران يهددان الشمال يجب أن يناط بدول الجنوب مهمة التصدي لهما، ألا وهما الإرهاب الدولي وزحف العمال المهاجرين.
فعلى هذه الدول أن تجتث جذور الإرهاب في المهد وأن تجفف منابعها، وعليها أيضا أن تشكل حواجز أمنية توقف زحف موجات المهاجرين .لكن مـاذا مقابل ذلك ؟ إذا كانت مهمة الجنوب هي حفظ الاستقرار السياسي والاجتماعي لأوروبا فإن مهمة الشمال أن يدعم استقرار الأنظمة الحاكمة واستمرارية تواجدها، وهذا يقتضي مساعدتها على حل مشاكلها. فبالإضافة إلى ما سيقدمه الاتحاد الأوروبي من مساعدات مالية وتقتية فإن عليه أن يحمي هذه الأنظمة من أعدائها في الداخل والخارج وأن يغض النظر عما ينخرها من فساد وعن سوء أدائها السياسي وانتهاكها لحقوق الإنسان ومصادرة إرادة شعوبها. ومن هذا المنطلق يصبح المشروع الساركوزي أقرب إلى مقايضة تكون شعوب المتوسط ضحيتها.
لذا لم تعد دول الجنوب مطالبة بالسيرورة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان أو حتى التطبيع المباشر. فهذه القضايا المحرجة والشائكة قد وقع إلغاؤها أو على الأقل تأجيلها .
ومع ذلك فإن المشروع كان إلى حد ما طموحا بالنسبة لفرنسا وللأنظمة دول حوض المتوسط حيث طرح شراكة إقليمية فعلية تتعلق بالتنمية وما تتطلبه من نقل التكنولوجيا وتكثيف الاستثمارات والتعليم.
6 ـ العضوية: يضم دول ضفتيْ المتوسط وعددها 22 دولة
وكما هو واضح من هذا الحيز الجغرافي فإن فرنسا استبعدت الدول العربية الواقعة في عمق الوطن العربي مثل السودان والعراق واليمن أوالواقعة على أطرافه الجنوبية مثل دول الخليج والصومال ودجيبوتي. كما استبعدت أيضا الدول الأوروبية الواقعة في عمق أوروبا وفي شمالها مثل ألمانيا والنمسا وبلجيكيا ودول أوروبا الشرقية. ما هي ردود فعل دول الجنوب ودول الشمال ؟ وما خلفية هذا الاستبعاد؟
رابعا : ردود فعل وخلفيتها
ـ دول الجنوب
تراوحت ردود فعل دول الجنوب بين القبول والتحفظ والتخوف والرفض.
أ ـ القبول : من الدول التي أبدت ترحيبها مصر والمغرب وتونس ورأت فيها انفتاحا على أوروبا وآفاقا جديدة للتعاون خاصة بعد أن وقع غض النظر على الحريات وحقوق الإنسان.
ب ـ التحفظ : إن الجزائر فقط هي التي عبرت عن تحفظها، ويبدو أن هذا التحفظ يعود إلى سببين:فقد شعرت بأن فرنسا لم تنزلها المكانة التي تستحقها كدولة مركزية تاريخا وإمكانيات، فقد أسندت الرئاسة لمصر والأمانة العامة للمغرب وجعلت تونس مقرا لها .ثم إن الجزائر ما زالت تحتفظ بشيء من رصيد الثورة الذي يمنعها من الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني السياسي أو الاقتصادي.
ج ـ التخوف : عندما أعلن ساركوزي مشروعه شعرت تركيا بأنه يستهدفها فهو خطة رسمها لتوقيف مسار انخراطها في الاتحاد الأوروبي. غير أن الدول الأوروبية أزالت مخاوفها وأكدت أن الاتحاد من أجل المتوسط لا يلغي النظر في قبولها.
د ـ الرفض: بدا العقيد القذافي وكأنه يغرد وحيدا خارج السرب، فقد دعا عدة قيادات عربية إلى طرابلس للتباحث حول الموقف المناسب من المشروع الفرنسي فتغيبت مصر وحضر المغرب على مستوى رئيس الحكومة، ولم يعلن رؤساء تونس والجزائر وسوريا أي موقف. وقد عبر القذافي بكل وضوح عن رفضه للمشروع واعتبره طعما للمغفلين وإهانة للعرب والأفارقة، لأنه يتجاهل الجامعة العربية التي تجمع شمل العرب رغم اختلافاتهم ومنظمة الوحدة الإفريقية التي انخرطت فيها كل الدول الإفريقية، وأن أي اتحاد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الانتماء العربي والإفريقي. وهذا ما فعلته ألمانيا عندما أصرت على ضم كل دول الاتحاد الأوروبي إلى المشروع.
إن هذه المواقف المتضاربة لدول الجنوب جعلت فرنسا لا تولي أهمية لمواقفهم، بل إنها لم تتهجم على القذافي الذي شكك في مصداقية المشروع، فهي على يقين من أنهم سينخرطون في مشروعها عاجلا أو آجلا، فليس لهم خيارات أخرى جادة.
وبهذا تكون فرنسا قد نجحت في اختراق الصف العربي وأجبرت القيادات على الهرولة نحو مشروع قد يحل لهم بعض المشاكل الآنية العاجلة لكنه لا يعالج أية قضية مصيرية تتعلق بحاضرهم ومستقبلهم.
لكن إذا كانت فرنسا لم تأخذ على محمل الجد مواقف دول الجنوب فهل سيكون لها نفس الموقف من دول الشمال؟
2 ـ دول الشمال : ألمانيا نموذجا
لم ينزل هذا المشروع بردا وسلاما على دول الشمال التي وقع استبعادها وجاء الاعتراض أساسا من ألمانيا وقام على ما يلي :
أ ـ إن فرنسا تصرفت بمفردها دون أن تتشاور مع شركائها في الاتحاد الأوروبي وهذا يتنافى مع تقاليد الاتحاد الديمقراطية.
ب ـ إن فرنسا أرادت أن تلغي مشروعا أوروبيا كان قد وقع إقراره منذ 1995 واستغرق بناؤه أكثر من عشر سنوات.
ج ـ إن المشاريع التي سيتم تأسيسها سيقع تمويلها من مؤسسات كل دول الاتحاد الأوروبي بما فيها الدول التي أُبعدت من الاتحاد المتوسطي، فهي تساهم في التمويل ولكنها لا تجني الثمار.
وبالإضافة إلى ألمانيا فقد دعت كل من السويد وبولونيا إلى مزيد من الاهتمام بدول أوروبا الشرقية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي وبالتحديد أوكرانيا وأرمينيا وأذربيجان والمجر وملدوفيا حتى لا تتجه من جديد إلى الدب الروسي.
هذه الاعتراضات وغيرها دفعت الحكومة الفرنسية لمراجعة مواقفها وتعديل المشروع ففيم يتمثل هذا التعديل؟
خامسا ـ الاتحاد من أجل المتوسط
بعد أن تكاثرت الانتقادات الأوروبية للمشروع الفرنسي اضطر ساركوزي للقيام بجولة في العديد من الدول الأوروبية للتشاور، فصدر نداء روما الذي وجهته كل من فرنسا وإيطاليا واليونان وإسبانيا في ديسمبر 2007 لقبول المشروع.
وأخيرا انتهت الاتصالات والمفاوضات بتعديله فأتى مستجيبا لرغبة دول شمال أوروبا وخاصة ألمانيا التي رفضت القفز على الخطوات التي تم تحقيقها في الشراكة الأورومتوسطية . وبعد مشاورات وافق المجلس الأوروبي الذي انعقد ببروكسيل يومي 13و 14 مارس 2008 ـ على المشروع ثم حورته اللجنة الأوروبية في 20ماي 2008 وتم إقراره بصفة نهائية في ذكرى الثورة الفرنسية 14 جويلية 2008.
وقد تناولت التعديلات ما يلي:
1 ـ الاسم : مسار برشلونة ـ الاتحاد من أجل المتوسط
فالتغيير في العنوان يؤكد تواصل الشراكة الأورومتوسطسية التي وقع إقرارها في اتفاقية برشلونة سنة 1995
2 ـ العضوية
بلغ عدد الأعضاء إلى 44 دولة وهي كالتالي:
ـ دول الاتحاد الأوروبي وعددها 27
ـ دول مسار برشلونة المتوسطية وعددها 13 :المغرب، الجزائر ، تونس ، ليبيا، مصر، فلسطين،سوريا، لبنان، تركيا، ألبانيا، الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى موريطانيا والأردن.
ـ الدول المقترحة وعددها 4 :كرواتيا، البوسنة والهرسك،الجبل الأسود وإمارة موناكو
أما عدد المتساكنين فهو 750 مليون نسمة
3 ـ الأهداف :ألغيت أهم التوجهات الجديدة واحتفظ فقط بالتعديلات المؤسساتية والمشاريع الإقليمية الكبرى.
وبهذا التعديل تتقلص أهمية المشروع حيث ينحصر في المشاريع التي يتبناها ويمولها الاتحاد الأوروبي ولعل أهمها : الطريق السيارة البحرية التي تصل الضفتين، الطريق السيارة المغاربية، مقاومة التلوث في المتوسط، المياه ، الحماية المدنية لمواجهة الكوارث الطبيعية والصناعية، السلامة البحرية، استغلال الطاقة الشمسية، التعاون العلمي والتقني.
والسؤال المطروح حول هذه المقترحات إلى أي مدى ستستفيد دول الجنوب منها إذا علمنا أن البرلمان الأوروبي وافق على مجموعة من الإجراءات تتعلق بالتضييق على المهاجرين بل وترحيل من ليس لهم إقامة.
فالمشروع الأول يستجيب لتطلعات فرنسا لكنه لا يهمل مصالح دول المتوسط، أما الثاني فإنه يراعي مصالح أوروبا ولا يعطي إلا أهمية محدودة للمصالح الإقليمية.
ذاك هو مشروع الاتحاد من أجل المتوسط في أصله وفي تعديلاته.
فما هي خلفية هذا المشروع؟ ولماذا حاول ساركوزي استبعاد دول الشمال الأوروبي ودول العمق العربي؟ وما هي الأهداف التي كان يروم تحقيقها؟
حتى نتبين ذلك علينا أن نضع المشروع ضمن الظرفية السياسية التي ظهر فيها ترى فيم تتمثل هذه الظرفية؟
سادسا ـ تقييم مشروع ساكوزي
ـ الظرفية السياسية وخلفية الاتحاد من أجل المتوسط
كل مبادرة سياسية ليست معزولة عن الإطار العام الذي تطرح فيه فهي مرتبطة به وبإشكالاته الراهنة والمستقبلية. ترى متى طرح المشروع وفي أي سياق؟

ليست هناك تعليقات: