2008/08/28

عن السياسة الأمريكية ..(( وحكاية كوم النمل العربي))




غطاس أبو عيطة

الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، أتحفنا بحكاية مشوِّقة عن ((السياسة الأمريكية.. وكوم النمل العربي)) مفادها:-

-"أن الإمبراطورية الأمريكية،هي بعكس كل الإمبراطوريات التي ظهرت في التاريخ ،لم تقم على أساس رؤية مستقبلية إنسانية شاملة للمجتمع والإنسان والكون والحياة..الخ،على الرغم من قدراتها الهائلة وامتلاكها لألمع العقول في الكرة الأرضية قاطبة،وذلك هو سر تميُّزها،إذ أنها لم تأسر سياستها لرؤية مسبقة تمنعها من التعامل مع كل حالة وفق خصوصيتها،الأمر الذي مكنها من مواصلة تقدمها كإمبراطورية فاقت في قوتها وامتداد نفوذها كل ما سبقها من الإمبراطوريات".

-"وإن تحررها من أية رؤية فلسفية شمولية – عدا مبادئ عامة عن الحرية الفردية وطراز العيش الأمريكي – هو ما مكَّنها بأن تفلت من القانون العام الذي حكم حياة سائر الإمبراطوريات،والتي كانت تشيخ وتهرم وتنهار مع شيخوخة الرؤية المستقبلية الشمولية التي نهضت على أساسها ،متحوِّلة مع تنامي قدراتها العسكرية والمالية والتكنولوجية وتوظيفها لألمع العقول القادمة من أرجاء العالم،إلى عملاق يجول بين أقزام على امتداد خارطة العالم".

-" ولم يحتج هذا العملاق لكي يسيطر على منطقتنا،غير أن يخبط بكفِّه العملاقة على مساحة المنطقة،حتى يتفرق مثقفوها(ومن ثم قواها السياسية)كما يتفرق كوم النمل عندما يخبط أحد بكفه على تجمُّعه،متحولاً إلى جماعات متفرقة في ردة فعل غريزية،إذ هكذا انقسم مثقفونا وسياسيونا إلى معسكرات متعارضة ،يتوهم كل واحد منها بأنه قد اختار الوجهة الصحيحة في رده على الخبطة الأمريكية،فيما اختار غيره الوجهة الخاطئة".

-" فقبل غزوها لأفغانستان والعراق ،طرحت الإدارة الأمريكية مشروعاً وهمياً للمنطقة تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير الذي يعمره الرخاء وتسوده الديمقراطية،فكان أن انقسم المثقفون العرب (والسياسيون) بين مؤيد ومعارض لهذا المشروع،منخرطين في معارك حامية فكرية وسياسية لم تلبث أن تحولت في بعض البلدان إلى صدامات دموية،ليتحقق لأمريكا ما استهدفته من خبطتها(مشروعها الوهمي)،منجزة احتلالها للبلدين المذكورين على طريق إحكام قبضتها على المنطقة،فيما جماعات النمل العربية منشغلة بالمشروع المذكور".

-"وحين تعثَّر مسار تقدمها لما واجهته من عقبات مؤقتة، عادت إلى خبطة أخرى تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد،لتتجدد ردة فعل كوم النمل على الساحة العربية،وليتواصل الانقسام بين معسكرات متجابهة،فيما أمريكا ماضية نحو تحقيق هدفها المنشود في السيطرة على دول وشعوب المنطقة".

-"وهكذا انقسم المثقفون(والسياسيون)العرب في مواجهة اللعبة الأمريكية،إلى معسكري تشدد واعتدال ،وفيما غدا مثقفو معسكر الاعتدال – ومعظمهم من قوى اليسار السابق- صورة عن المحافظين الجدد في إدارة بوش ،في دفاعهم عن قيم الديمقراطية التي تأتي محمولة على ظهر الدبابات الأمريكية ،حيث لم يتراجع هؤلاء عن تبشيرهم بتلك الديمقراطية رغم رؤيتهم لما حلَّ بالعراق عقب الاحتلال الأمريكي ،فإن قوى المعسكر الآخر قوى الصمود والممانعة والمقاومة كما تسمي نفسها)،عمدت إلى الانخراط مع المعسكر النقيض في صراعات داخلية ،منتشية بما حققته على خصومها الداخليين من انتصارات مؤقتة،مدعية بأن ما تخوضه من صراعات قبليَّة مع أبناء شعوبها،إنما يأتي في سياق تصديها للمشاريع الأمريكية والصهيونية".

(وهنا يتعرَّض الكاتب لحركة حماس على الساحة الفلسطينية((التي انتصرت على السلطة وسيطرت مؤقتاً على قطاع غزة))،ولحزب الله ((الذي صعد نجمه مؤقتاً أيضاً على الساحة اللبنانية إثر حملته العسكرية في السابع من أيار على قوى المعسكر الآخر))،كما يذكُر ((الشام وفارس.. التي ادعت بأنها قد أوقفت بصمودها تقدم المشروع الأمريكي))، ثم يتحوَّل في هجومه على" التيار الإسلامي..الذي تتيح له السياسة الأمريكية أن يصل إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية تجرى لمرة واحدة ، لكي تعمَّ الفوضى تحت قيادة هذا التيار اللاعقلاني في البلدان العربية غير النفطية- فيما تبقى بلدان النفط بمنأى عن هذه الفوضى وفق ما تخطط أمريكا - ،بما يقودها (البلدان غير النفطية)إلى الانقسام على أساس مكوناتها الإثنية". ولا ينسى الكاتب في سياق حكايته، أن يغمز من قناة الجنرال عون((الذي ينصر المثقف على السياسي، وذلك في مواجهة من يفعلون عكس ذلك))..أي أن الأمر لا يعدو كونه مماحكات وسفسطات لا معنى لها من جانب جميع المثقفين والقوى السياسية.

وخلاصة ما يقوله كاتبنا ،هو أن الشعوب العربية ممثلة بنخبها الثقافية والسياسية،هي أعجز عن فهم السياسة الأمريكية التي ترسمها ألمع العقول،وأنها في مواجهتها للعملاق الأمريكي،لا تفعل غير التلهي بسجالاتٍ وبصراعات فيما بينها ضمن معارك دونكشوتية تجري في الوقت الضائع الذي يسبق استكمال السيطرة الأمريكية على مقدرات المنطقة.

وإذ نتصدى لما سعى الكاتب إلى إدخاله في روعنا حول إطلاقية القدرة الأمريكية من جهة،وحول هزال الوعي والقدرات العربية في مواجهة الجبروت الأمريكي من جهة أخرى ،فإننا نعمد إلى قول التالي:

أولاً – إن الإمبراطورية الأمريكية ليست مطلقة القوَّة كما أنها ليست خارج حكم التاريخ الذي خضع له غيرها من الإمبراطوريات الرأسمالية الاستعمارية.فرغم أن هذه الإمبراطورية لم تقم منذ نشأتها على أساس رؤية إنسانية شمولية كالتي قامت عليها الإمبراطورية الفرنسية قبل أن تتحوَّل إلى الاستعمار (إذ اهتدت بفلسفة عصر الأنوار،واعتمدت مبادئ الثورة الفرنسية كما يشير الكاتب)،لكونها في أساس نشأتها إمبراطورية مهاجرين مستعمرين، أي أنها دخلت مرحلة الاستعمار قبل أن تبلور هوية قومية لتجمعها الاستيطاني،وذلك ما حدا بها ،إلى بلورة رؤية عنصرية استعلائية هي مزيج من الأساطير التوراتية التي آمن بها المهاجرون البريطانيون،ومن الشعور بالتفوق لما حققته فيما سمي بالمعجزة الأمريكية،وكان ذلك كل ما تحتاجه كعدة إيديولوجية لاستئناف عملية الاستعمار التي بدأتها مع إبادة سكان البلاد الأصليين ومع استرقاق الأفارقة السود،أما عن الحرية الفردية ،فهي السمة التي تطبع النظم الاستعمارية الاستيطانية،كأداة إدماج لتجمُّع المستوطنين الذي ينتمي إلى ثقافات وهويات متعددة،بالإضافة إلى عامل إدماج آخر،يتمثل في اختلاق عدو خارجي يتربص بهذا التجمع ويحمل صورة الشر المطلق.

وإن هذه الرؤية الشمولية ذات الطابع العنصري الاستعلائي،التي لم تهذبها قيمٌ ومبادئ إنسانية سابقة على بروز النشاط الاستعماري،هو ما أوصل هذه الإمبراطورية لأن تكون أكثر همجية في التعامل مع الشعوب المستعمرة ، ماضية وراء جشع شركاتها الرأسمالية التي سمنت من دماء شعوب أخرى،وهو ما وضعها بالتالي،أمام ردة فعل أكثر ضراوة ودموية من جانب حركات الشعوب التحررية،فكانت هزيمتها المدويَّة في فيتنام،وانحسار سيطرتها على بلدان أمريكا اللاتينية ،ثم مأزقها في العراق وأفغانستان،وفشلها على الساحتين اللبنانية والفلسطينية وفيما يتعلق بسعيها لإخضاع سورية وإيران عن طريق العزل والتهديد بالعدوان العسكري،وإنه مع تكشف مأزقها في المنطقة،تنكشف نقطة ضعفها الأساسية كإمبراطورية لم تتشكَّل كأمة ذات هوية قومية ،تكون حاضناً لقوة دفع ذاتية تشكل حامياً لسياستها الاستعمارية مما أوصلها إلى الاعتماد على نوع من المرتزقة في الدفاع عن هذه السياسة،بما يترتب على ذلك من أعباء مالية باتت تثقل خزينة هذه الإمبراطورية.

ثانياً – إن الانقسام الذي يتحدث عنه الكاتب الذي ضرب المنطقة العربية في مواجهة حملة الإخضاع البربرية التي تقودها أمريكا،هو ليس ظاهرة تنفرد بها الشعوب العربية ونخبها الثقافية والسياسية كما يتوهم كاتبنا وذلك في سياق نظرة دونية إلى هذه الشعوب.فمثل هذا الانقسام عاشته على سبيل المثال الأمة الفرنسية – التي يشيد الكاتب بمبادئ ثورتها،التي دشنت عصراً جديداً في أوروبا والعالم،والتي عمدت إلى فصل الدين عن الدولة- وذلك إبان الغزوة النازية.ولعله قد ظهر في فرنسا إبان الاحتلال النازي،أمثال صاحبنا من المثقفين ممن وضعوا نفسهم فوق "جماعات النمل التي فرقتها خبطة الكف النازية"،فكانوا من الناحية العملية،إلى جانب المعسكر الذي أعلن خضوعه للنازي بزعامة الجنرال بيتان ،وليس في خندق من صمموا على هزيمة النازية من أبناء الشعب الفرنسي وشعوب أوروبا والعالم.

ثالثاً – وإذ نستغرب الهجوم المقذع الذي يشنه صاحبنا على مثقفي اليسار السابق ((ممن شرعوا في تغيير مبادئهم وأفكارهم،راقصين على أنغام الدعاية الأمريكية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يراد نشرها في المنطقة عن طريق الغزو))،فإننا نردُّ ذلك،إلى ما جرى من تجرؤ هذا التيار من المثقفين ،من إدراج توقيعه في ذيل وثيقتهم التي تدعو إلى قيام دولة واحدة عربية- يهودية في فلسطين ،والتي يناضل شعباها سوية ضد الاستعمار والصهيونية،إذ أنه أراد أن يقول لهؤلاء ،بأنه خارج إطار تجمعات النمل على اختلاف وجهاتها الغريزية،وأنه أكثر حكمة من أن تجتذبه ألاعيب السياسة الأمريكية،وهو بالتالي فوق المختلفين حول هذه السياسة فيما هم ضالعون حسب رأيه في اللعبة الأمريكية بوعي أو بدون وعي،غير عابئين بما يلحقونه من دمار وسط شعوبهم بما يفوق في ضرره ما تلحقه سياسة الغزو الأمريكية والصهيونية(؟).

رابعاً – وإذ نقر كاتبنا ،فيما يشنه من حملة ضارية ضد"الليبراليين الجدد"من قوى اليسار الذين ارتدُّوا عن موقف العداء للإمبريالية – برغم النزعة النرجسية التي دفعته إلى ذلك -، فإننا نمضي إلى التأكيد ،بأن مشروع السيطرة الأمريكية على المنطقة ليس قدراً لا راد له كما يريد أن يفهمنا من مضمون حكايته،موضحين في الوقت ذاته،بأن ما يطرحه هذا المشروع من أطُرٍ لإعادة رسم خريطة المنطقة تحت عنوان الشرق الوسط الموسَّع أو الشرق الأوسط الجديد،ليست ألهيات تنشغل بها نخبنا بقدر ما هي صياغة للمرحلة الثانية من استهدافات القوى الاستعمارية تجاه المنطقة،والتي تقوم على تمزيق ما جرى تجزئته في المرحلة الأولى بتنسيق مع القاعدة الصهيونية التي تم زرعها في قلب المنطقة في المرحلة المذكورة،وأن من يقاومون هذا المشروع ،هم ورثة من قاوموا السيطرة الكولونيالية وقاعدتها الصهيوينية،ومن حملوا راية المشروع القومي التحرري في مواجهة المشروع الاستعماري النقيض،والذين اصطدموا مع من رضخوا للسيطرة الكولونيالية بذريعة أنه لا جدوى من المواجهة، وإن ما أنجزته المقاومة اللبنانية من انتصارات على هذا المشروع وأذنابه المحليين والإقليميين،قد شكل خطوة تاريخية على طريق هزيمة هذا المشروع بمرحلتيه الأولى والثانية،وكذلك بالنسبة لما حققته المقاومة الفلسطينية في غزة ،والمقاومة البطولية التي تفجرت على أرض العراق،وذلك إلى جانب صمود سورية وإيران بوجه العربدة الأمريكية والتهديدات الأمريكية والصهيونية.

ولعلنا نشير في الختام،بأن ضراوة الصراع الدائر مع المشروع النيوكولنيالي الذي تقوده أمريكا،وحجم القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في هذا المشروع ،هو ما أوصل صاحبنا إلى موقف الاستخفاف بإرادة وقدرات من حملوا على عاتقهم عبء التصدي لهذا المشروع.وقد لاحظنا مؤخراً ،ومع تراجع المشروع المذكور بسبب الإخفاقات التي مني بها ،كيف عدَّل صاحبنا في صيغة خطابه،ففي مقابلة مع فضائية تيار الجنرال عون،راح يتحدث بتقدير عن دور سورية التي تشكل عاصمتها حاضرة شعوب سورية الطبيعية،والتي تستمد قوتها من موقعها الاستراتيجي في المنطقة،رغم أنه في مقابل ذلك،ألقى وراء ظهره بكل المؤشرات التي تكشف عن مأزق أمريكا في العراق،معتبراً أن سيطرتها على هذا البلد العربي باتت نهائية ولو بلغت خسائرها خمسين ألف جندي،كما أنه بقي على موقفه من قوى المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان،وذلك انطلاقاً من موقف إيديولوجي تجاه هذا التيار الذي هو في صميم حركة التحرر العربية برغم ما يمكن طرحه إزاءَه من الملاحظات التي نرى بأن هذا التيار يملك القدرة على تجاوزها ،حين توصله الوقائع على الاستيعاب،بأنه امتداد طبيعي لحركة التحرر العربية التي قادتها في مرحلة سابقة قوى قومية ويسارية حققت إنجازات هامة برغم عدم تمكنها من إلحاق الهزيمة النهائية بالمشروع الاستعماري.



ليست هناك تعليقات: