2008/08/20

الطوباوية في الفكر السياسي والوطني الفلسطيني

بقلم / م . سميح خلف

لم يجد منتقدي التمسك بالثوابت وبتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني إلا وصفهم بالطوباويين ، في حين أن الثورة هي فن صناعة المستحيل وفن التمرد على الواقع والواقعية التي تجر معها الظلم والتعسف وفقدان الحقوق للمواطن أو للإنسان في أي مكان

في صيف 1985 م و أثناء تواجدنا في قوات اليرموك – عدن وفي وقت متأخر من الليل و بصحبة العقيد خيري أبو الحج والنقيب عبد الناصر مسئول الإعلام في القوات في ذاك الوقت وهو سوداني الجنسية من المتطوعين في صفوف الثورة الفلسطينية ، في تلك الأثناء كان أبناء حركة فتح مطاردين ومطلوبين للتحقيق معهم من قبل عبد الرزاق المجايدة وأبو العبد خطاب ومسئول العمليات في القوات بركة أبو عريبان وفي لحظة تأمل في هذا الليل المتأخر سألني عبد الناصر وأنا شارد الذهن بماذا تفكر ؟ .. قلت له أريد أن أسألك يا مسئول الإعلام هل يمكن للثائر أن يتحول يوما إلى أداة بطش على شعبه وعلى من تبقى من قوى الثورة في مرحلة ما ؟ .. قال لي لماذا تسأل هذا السؤال ؟ .. قلت له أنني أرى أن هذه القوات تعد لهذه المهمة في مرحلة قادمة ، فقال هذا مستحيل وتفكيرك أبعد من الحقيقة . قلت له بل أنني أستقرئ ماذا سيحدث نتيجة هذا السلوك والنهج السياسي الذي تتبعه القيادة الفتحاوية أي صاحبة القرار ، وسياسة وبرنامج منظمة التحرير .. فقال : أنت طوباوي! .

وحديثا ومن خلال رسالة قصيرة بين وبين أخي المناضل أيمن اللبدي ، قال لي : تقول عنك بعض القيادات في حركة فتح أن طرحك طوباوي مستنكرا هذا الوصف أمام ظاهرة الفساد ومنظريها ، ومن هنا نبدأ ما أريد أن أصل إليه .

الطوباوية :

أتي مصطلح الطوباوية في بدايات القرن العشرين من كلمة Utopia وهو مصطلح ( جزيرة التصورات ) وهو نفس المصطلح للكاتب السير ثوماس مور عام 1516 ، وهو يعني أفضل نظام سياسي واجتماعي أو المثالية في الطرح ، أو التصور الخيالي ، وتوصف الطوباوية لكل من يحلق بعيدا في الخيال ليرسم لنفسه وللآخرين حقائق وهمية لا اساس لها من الصحة والواقع ..

ان اليوتوبيا هي التصور ورسم الافكار غير القابلة للتطبيق ، كما انها الانشاء ورصف الكلمات لاشياء لا اساس لها من الصحة .

وفي القرن التاسع عشر وصف الفكر الإشتراكي في أوروبا بالفكر الطوباوي أمام القهر الذي كانت تعاني منه أوروبا .

لا أريد هنا أن أدخل كثيرا في المعاني والقنوات التحليلية للفكر الطوباوي ، بقدر ما أريد أن أدمج المقارنة بين مصطلح الطوباوية وحركة التحرر الوطني الفلسطيني ، إذا كان هناك اتفاق بين ما طرحته حركة التحرر الوطني أم فكرا واقعيا لحل معضلة حلت بالمنطقة العربية وبالعالم من تواجد صهيوني على الأرض العربية وعندما وجدت النظرية الصهيونية في مؤتمر بازل 1897 – 1898 هل كنا نستطيع القول أن الفكر الصهيوني والنظرية الصهيونية عندما كانت تخطط لإقامة دولة لليهود في أنحاء العالم كان فكرها طوباوي ؟ .. وهل عندما طرحت النظرية الصهيونية كان يمكن أن تحقق أهدافها إقامة دولة غاصبة على أرض فلسطين أو من دول الخيارات الأخرى ، يجب أن نفكر كيف يمكن أن يكون الفكر طوباويا والطرح طوباويا وكيف يمكن أن نفكر عندما يكون الفكر هو فن صناعة المستحيل للقضاء على واقع ظالم .

حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي أرادت أن تنقل الشعب الفلسطيني من عالم اللجوء والنزوح وضياع الحقوق إلى شعب قادر على رسم خريطته من جديد بناء على الأصول وبناء على التراث والتاريخ والحقوق أيضا ، لا أريد هنا أن أدخل في مدخل متى بدأت حركة التحرر الوطني الفلسطيني ، ولكنني أجد جوا مناسبا لنموها وانتشارها كحركة تحرر بالأفكار التي طرحتها ، وأول دعائمها الحالة الشعورية والثقافية للشعب الفلسطيني وثانيها مساندة بعض الأنظمة ونكسة بل هزيمة 67 .

لقد طرحت حركة التحرر الوطني الفلسطيني فتح منذ انطلاقتها تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني على الأرض الفلسطينية التاريخية وإقامة الدولة الديمقراطية التي تحفظ لجميع الديانات حقوقهم وتصفية الكيان الصهيوني بكل عناصر تواجده على الأرض الفلسطينية ، الكيان الصهيوني الذي بنى بنيته المؤسساتية سواء إقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية أي كل متطلبات المجتمع المدني والذي يأخذ السمة العسكرية أيضا ، هل عندما طرحت حركة فتح استرجاع الحقوق وتصفية هذا الكيان الغاصب كان للمؤسسين فكرا طوباويا ؟ !! ..

وهل التحلل من الفكر الطوباوي هو الإتجاه نحو تحريف أو إلغاء ماجائت به حركة التحرر الوطني وهل لكي لا نكون طوباويين أن نقر بوجود العدو الصهيوني على الأرض الفلسطينية وغالبية الأرض الفلسطينية وقول دولة الكنتونات وهل نسير في مسار التنازلات تحت برنامج ما يسمى بالواقعية .

عندما يدعو أي كادر إلى التمسك بالأهداف والمنطلقات والمبادئ التي وضعتها حركة فتح يقول بعض ممن سموا أنفسهم بالواقعيين أن هؤلاء خياليين ولا يمتوا للواقع بصلة ولا يحتكموا في معالجاتهم لتطورات الصراع ، في حين أن تطورات الصراع تقول أن الكفاح المسلح ليس في الثورة الفلسطينية فحسب بل في كل الثورات صنعت المستحيل وحققت من الخيال أمام القوة والظلم وطنا حرا ذو سيادة إلا ما ابتدعه المحرفون والمنحرفون الذين تسللوا بشكل أو بآخر إلى أطر حركة التحرر الوطني في ظلمات الليل منذ اللبنة الأولى حتى التشعبات والتفرقات التي أحدثت لهم قوة القرار والتواجد والإنتشار بفعل اختراقات متعددة إقليمية ودولية .

مدرسة ما يسمى بالواقعية هي من صاغت البرنامج المرحلي والنقاط المرحلي وتحريفاتهما والخروج عن البرنامج الوطني كحركة تحرر أداتها الكفاح المسلح وهي نفس المدرسة التي جاءت بإعلان بيان الإستقلال على دولة في الهواء واستيلاء متزايد على القدس وما تبقى من الأرض الفلسطينية ي الضفة وهي نفس المدرسة التي أتت بأوسلو وبعملية انقلابية معقدة ومتشابكة الأطراف هي التي تخلصت من من كان يريد في حصاره أن يعلن إنقلابا على مدرسة الواقعية ، " أبو عمار " ، وهي نفس المدرسة التي استراحت كثيرا لإغتيال أبو جهاد ، وهي نفس المدرسة التي أتت بوثيقة جنيف ، وهي نفس المدرسة التي قبلت بخارطة الضلال لتكون خارطة الضلال وبنودها بابا مفتوحا لتوسع أكب في الإستيطان أو شك على ابتلاع القدس وهي نفس المدرسة التي تفاوض من أجل التفاوض .

وتحت برنامج الواقعية ومحاربة الطوباوية في صفوف وأطر حركة التحرر الوطني هي من ارتكبت أبشع الممارسات بحق ما يسمى بالطوباويين معنويا وماديا وهي نفس المدرسة التي عاثت في صفوف الشعب الفلسطيني فسادا وسرقة ونهبا للأموال وللإمكانيات التي كانت يجب أن توظف لما يسمى الطوباويين لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني ، هي نفس المدرسة التي سلكت طريق مبرمج وطويل في عمليات تطويع وتذويب لكل الطاقات التي تدعو للمثالية في ممارسة السلوك الثوري في أطر حركة التحرر الوطني .

إذا أيضا هل يمكن أن نقول أن الفكر الطوباوي قاد حركات التحرر الوطني إلى النصر بما يحمله من فكر مثالي في معالجة القضايا وعدم رضوخه لبرنامج الواقعية وبرنامج الإعتراف بالإحتلال ، وهل نستطيع القول أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي فشلت في تنفيذ برنامج الإنطلاقة و فشلت في إرساء مبدأ العنف الثوري ، وفشلت في التمسك بما وضعته من برنامج ، هل نقول أنه الفكر الواقعي وهل نستطيع أن نعرف الفكر الواقعي بأنه هو البرنامج الرجعي وهو البرنامج المرتبط بمصالح وقوى الآخرين ؟ ..

ولكي لا نكون طوباويين هل نقر ببرنامج الإحتلال وهل نقر بقيادات فاقدة الشرعية وهل نقر بكل ألوان الفساد التي تغلغلت في أحشاء حركة التحرر الوطني ؟

أعتقد أن الطواباويين هم القادرين على رسم المدينة الجميلة الخالية من العيوب والموجود في الساحة الفلسطينية وبمنسوب النسبة أن الإنكسارات التي حدثت في حركة التحرر الوطني تفوق كثيرا الإيجابيات ، ولو وضع كما يسمي الآخرين أصحاب الفكر الطوباوي لاستطعنا من خلال فكرهم التقليص كثيرا من منسوب الأخطاء القاتلة ولتخلصنا من فكرة انهيار حركة التحرر الوطني المعاصرة ، ولتخلصنا من فكرة التخلي عن الأهداف والمبادئ والمنطلقات التي بدأت منذ الإنطلاقة عام 1965 وانتهت بعد سنوات قلائل .

هل نقول أخيرا ونتيجة لتطورات الصراع ونقاط الإخفاق ونقاط التقدم أن ما تطرحه الحركات الإسلامية الآن من التمسك بالمقدسات و التمسك بأرض فلسطين التاريخية وبإزالة المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية وهي فصائل تنادي بالجهاد كحركة الجهاد الإسلامي وحماس والأحرار وفصائل وبعض تشكيلات منبثقة عن حركة فتح وتتمسك بالأصول مع الأخذ بالمنظور الإسلامي كقوة لا يمكن أن تهزم أمام الظلم والعدوان وسلب الحقوق ، هل يمكن أن نقول أن هؤلاء لديهم فكر طوباوي ، وهل الجهاد والتمسك بالحقوق هو فكر طوباوي .. فاليخسأ هؤلاء المحرفون المنجرون إلى خندق الردى والعمالة تحت ما يسمى برنامج الواقعية ومحاربة الطوباوية ... وليكن أن نكون طوباويين إذا كان ذلك سينقي الساحة الوطنية الفلسطينية من العابثين فيها وفي مصيرها وفي مقدراتها .

ليست هناك تعليقات: