2008/08/13

استعادة النهضة العربية مشروطة بهزيمة المشروع الصهيوني )

نفلا عن موفع صوت الامة العربية



أديب ديمتري


وقفة مع الذات. ومراجعة صادقة وشاملة لكل ماضينا وحاضرنا. والمزيد من العمق والمكاشفة والتنظيم في الحوارات المنتعشة والغنية الجارية يفرض نفسه على الجميع.

الأنواء العاصفة المدمرة لم يعد شعب من شعوبنا ينجو منها. العراق يصارع التحلل والموت. عالمنا العربي يتفكك ويتفتت وينحدر وينهار. عدنا قبائل وعشائر وبطوناً وطوائف وعصبيات متقاتلة. الماضي معروف، شعوب صنعت أول حضارات التاريخ. وأقامت اول دول، وأول قوانين ودساتير ومعاهدات، ومهبط الأديان السماوية التي حوت أول وثائق حقوق الانسان، العدل والمساواة والرحمة والسلام.

أما النهضة العربية الحديثة فقد بدأت قبل الحملة الفرنسية في عهد علي بك الكبير في أواخر القرن الثامن عشر، ومحمد علي وابراهيم في بداية القرن التاسع عشر، وتفتحت فكراً واستنارة برفاعة وفريق من المتنورين العظام على مدى القرن وتابعت فصولاً في ثورات وطنيــة وديمقراطية في مصر والشام والمغرب.

والمفارقة الغريبة التي تحتاج الى تأمل وتفكير عميقين. ان شعبنا الذي صنع هذا الصنيع هو الذي ينحدر وينهار، في نفس اللحظة والساعة التي تشهد فيها معظم بلدان العالم الثالث، من آسيا الى امريكا اللاتيــــنية عدا بعـــض بلدان افريقيا وقلة من آسيا، صعوداً ونهوضاً لافتاً وغير مسبوق. النمور والتنانين تنهض في جنوب شرق آسيا والهند تتأهل للدخول في نادي الكبار، والصين اصبحت هم الامبريالية الامريكية المقيم. الهند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها كانت مصر بالذات ملهمها ورائدها، هنا يفرض السؤال نفسه: ماذا حدث؟! ولماذا؟! وكيف؟! والجواب جاهز، الاستعمار. ولكن الاستعمار وهو حقيقة لا زال في كل مكان، والهيمنة الامريكية العالمية تتراجع وتتصدع، وأوربا العجوز الاستعمارية تتخبط في ازماتها، ولا تكاد تحير او تدير. رغم تسابق طغاتنا الى الاجتماع بساركوزي في باريس والذي اصبح يلقى الرفض والسخرية من شعبه وإن انتخبوه.

البعض يرى العيب فينا، وفي شعبنا، وفي قعودنا وكسلنا، وبكائنا عل الاطلال، او في خضوعنا وذلنا، وهو غير صحيح عل الاطلاق. فالشعب المصري على سبيل المثال، وقد يكون هناك بعض التقصير في دور النخبة والطليعة الواعية، ومع ذلك فقد حقق عماله وموظفوه وسائر طوائفه في خلال السنوات الأخيرة اكثر من خمسمائة اضراب واعتصام وتظاهرة في حركات احتجاجية ومطلبية ناجحة. وشباب الفيس بوك نفذوا في حركة 6 نيسان (أبريل) اول تجربة عبقرية لاضراب وعصيان مدني شمل مصر كلها بالانترنيت والمحمول، واخترق القمع الذي لا يقهر. وشعب دمياط تصدى لشركة اجريوم الملوثة وانتصر، وعمال المحلة وشعبها رغم الرصاص الحي، اسقطو صورة الطاغية وداسوها بالنعال، كما انبعثت حركة كفاية لتصبح رغم الحصار المضروب حولها، مثالاً وعنواناً لمقاومة مدنية، كما فاجأت وعرت الأحزاب الورقية يميناً ويساراً، ووضحت قادتها الانتهازيين.

والشعب الفلسطيني هباته متواصلة ونضاله منذ ثورته الكبر عام 36 سروراً بالنكبة، ومنذ انبعاث ثورته الجديدة عام 65 نضالاته لم تتوقف منذ الاحتلال غير انتفاضتين كلفتاه ألوف الشهداء، ومع ذلك قيادة أوسلو الفاشلة تواصل مفاوضاتها العبثية رغم كل الممارسات والاجتياحات والاغتيالات وعمليات التجويع والحصار والإبادة، وأكثر من ستمائة حاجز في الضفة الغربية ومواصلة التهويد والاستيطان.

كل هذه المناطق والبلدان والقارات التي شهدت وتشهد في الآونة الأخيرة نموا غير مسبوق وتقدماً لافتاً، وتحولات ديمقراطية هامة، لا تخلو من قواعد امريكية ولا من نشاطات اجهزتها الاستخباراتية ولا من مؤامراتها، ولكن كلها تشترك في سمة بعينها: عدم وجود اسرائيل، او أي تشبيه لها ويعادلها في وظيفتها المنوطة بها، اسرائيل العنصرية الفاشية، والقاعدة الكولنيالية الامبريالية الفريدة في نوعها، تجمع بين التبعية والهيمنة الامبراطورية. تستمد دماءها من الامبريالية العالمية، وتحيك امبراطوريتها الخاصة على جثث شعوب المنطقة، ويبدو اننا نسينا أصلها وفصلها.

نشأ مشروعها الصهيوني في الرحم الأوروبي، وحمل جينات مراحل التاريخ الأوروبي الكولونيالي والامبريالي حت صعود الفاشية والنازية والحرب الثانية. نشأ بعد هزيمة الثورات الديمقراطية في عموم اوروبا. هزيمة العقل والعقلانية في ثورات 1830 و1848 نهاية بثورة 1870 التقدمية، وصعود القومية الرجعية العنصرية المتطرفة في كل اوروبا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومعها صعودا الامبريالية في نهايته ، وبداية العشرين.

وليس أدل على مدى ما لهذا العامل من حسم، وهو وجود اسرائيل بانتماءاتها هذه ووظيفتها المترتبة. أي مراجعة او مقارنة ولو سطحية بين حال العالم العربي، وحال حركته التحريرية في بداية القرن العشرين وخلاله حت هزيمة 67 وبرغمها حت العبور العظيم عام 73 ، وحالها بعد اتفاقات كامب ديفيد 78 والسلام 79 وما تلاها حت اتفاقات اوسلو 93 كذيل وهمي لها، بعد ان شطب السادات كل أسباب الصراع الحقيقية التاريخية وا لحضارية، واعتبرها مجرد حاجز نفسي، قفز عليه ليسقط في حجر كيسنجر وبيغن فسقطت معه مصر وكل عالمها العربي، في عرين الأسد والذئاب. اين امجاد مصر الناصرية وبرغم كل الأخطاء وحت هزيمة حزيران (يونيو)، من خراب مصر مبارك. أين الوحدة المصرية السورية، وثورة العراق، وسقوط حلف بغداد، من سقوط بغداد وحكم الطواغيث العرب من المحيط ال الخليج؟!

مركزية القضية الفلسطينية التي شاعت إثر النكبة، لم تكن من قبيل الكلمات الانشائية، ولا البلاغات اللغوية بل صلب الواقع ووعي حقيقي بأبعاد القضية، وترجمة صادقة للمثل العربي الصحيح: ألا أكلت يوم اكل الثور الأبيض، وما يجري اليوم بعد ان أكلت فلسطين، ليس سو إلتهام الشعوب العربية من موريتانيا ال بغداد.. الواحدة بعد الأخر!

كتب نجيب عازوري رائد القومية العربية في كتابه الشهير يقظة الأمة العربية في مطلع القرن الماضي 1905، وكأنما كان يكتب ليومنا هناك حادثتان من طبيعة واحدة، ولكنهما متعارضتان وهما الأمة العربية، والجهد لانشاء ملك اسرائيل القديم من جديد، وعل مقياس أوسع. ان مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر ال ان تغلب احداهما الأخر، ومصير العالم كله منوط بالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين .

كم كان وعيه عميقاً صادقاً، حت السلام العالمي تتهدده اليوم تصريحات شاءول موفار عن عزم اسرائيل ضرب ايران ومناوراتها العسكرية.

المفكر الكبير الفلسطيني ادوارد سعيد الذي قض حياته مهموماً بقضايا شعبه، وهو المثقف العارف والمعايش للثقافات الغربية، كان نقده عنيفاً لأوسلو وتنازلاتها، فالامبريالية التي صعدت في اواخر القرن التاسع عشر امتداداً للكولونيالية يراها في نظره فلسفة سياسية هدفها المطلق هو التوسع الاقليمي واستغلال العلم بعد تشويهه وهو من مكتسبات ذلك العصر من علوم البيولوجيا والانتروبولوجيا واللغة وأفكار دارون استخراج نظرة دونية منها لشعوب ومجتمعات كاملة في آسيا وافريقيا، مستخدمة النماذج والتصنيفات العرقية والعنصرية عند جوبينو وستيوارت تشمبرلن ورينان.

والصهاينة الأول استفادوا من محيطهم الأوروبي وأخذوا عنه الشكل والفلسفة ونمط التفكير، فالصهيونية منتج منحط للامبريالية الأوروبية، فنحن أزاء أسرة واحدة من الفكر. ولكي يصوّر العقلية التي خلقتها الامبريالية يقدم نص رسالة لجنرال كولونيالي حول قانون الجاموس في غرب الولايات المتحدة جاء فيه:

كان هناك ما يقرب من التسعة ملايين من الجاموس عام 1865 بين نهر ميسوري والجبال الصخرية، وكل هذه الأعداد اختفت اليوم، ذبحت من اجل لحمها وجلودها وعظامها، وقد يبدو هذا قتلاً ووحشية. ولكن هذه القطعان حلت مكانها اضعاف مضاعفة من الحيوانات الأخر الأكثر فائدة. وفي نفس الوقت كان ما يقرب من مائة وستين الفاً من قبائل الهنود الحمر الذين يعيشون عل قطعان الجاموس هذه، وهؤلاء بدورهم فنوا واختفوا بفناء القطعان، وحل مكانهم رجال ونساء بيض، تحكمهم قوانين الحضارة، وهو ما لا بد ان نفرح له ونكمله حت النهاية !

أي فارق من هذه الصورة وما جر ويجري في الأراضي المحتلة، وفي غزة من عمليات الحصار والتجويع الذي أهلك الأطفال والكبار.

و حنا أرندت المفكرة والكاتبة الامريكية، ألمانية الأصل في كتابها الشهير انيخمان في اورشليم عن محاكمة ايخمان المسؤول النازي الكبير الذي خطف من امريكا اللاتينية وحوكم في اسرائيل وأعدم، كشفت في كتابها هذا عما كان بين الصهاينة والنازية من علاقة مستترة وتعاون رغم العداء المعلن والاضطهاد ال حد الابادة لليهود أعداء الرايخ . وما يقوله الصهاينة اليوم عن الفلسطيني يكاد يكون ترديداً لما قاله النازي عن اليهود اثناء الحرب، وتكاد نفس العبارات التي كان يرددها ا لنازي هي التي تتردد اليوم عل لسان الصهاينة: انها معركة المصير للشعب الألماني، وألمانيا ليست هي التي بدأت ا لحرب، التي اصبحت قصة حياة او موت، تبيد اعداءها او تباد. والصهاينة في نظر النازي يهود مقبولون لأنهم قوميون كما تقول أرندت، رغم انهم لم يكونوا يصرحون علناً بذلك بينما كانوا يطاردون اليهود الاندماجيين المعادين للصهيونية والذين كانوا يمثلون الاغلبية من اليهود الألمان. وارندت تتحدث عن اتصالات ومساعدات من الطرفين اثناء الحرب لتشجيع الهجرة غير الشرعية ال حد تزويدهم بالأدوات ووسائل التدريب للرواد في كيبوتزانهم في فلسطين (1077 ص) ونكتفي بهذا القدر لضيق الحيز.

هل يمكن ان يقوم سلام مع كيان هذا وصفه وهذا تاريخه؟! كولونيالي استيطاني طارد وفاشي؟!

في مقدمات الحرب العالمية الثانية، عندما عاد تشمبرلين من ميونخ بعد لقاء هتلر والاتفاق معه خاطب مواطنيه: لقد جلبنا لكم السلام والشرف.. ورد عليه تشرشل: لقد كان على بريطانيا وفرنسا ان تختارا بين الحرب والعار، ولقد اختارتا العار، ومع ذلك فستقتحم الحرب نفسها عليهما .. وقد كان.

في عصرنا لم تعد الحرب هي الـــحل، وشعبنا العربي لا يريد الحرب، بل الذي يريدها هي اسرائيل، في الماضي شنت ست حروب، وحربها اليوم دائمة. إذن ما العمل؟

لم يعد هناك حيز لجواب؟

ليست هناك تعليقات: