2008/09/03

اقتصاد السوق إلى المؤسسات: رحلة في عالم الأفكار د.محمد عبد الشفيع عيسى

اقتصاد السوق إلى المؤسسات: رحلة في عالم الأفكار د.محمد عبد الشفيع عيسى

نقلا عن موقع المسيرة


يتداول الاقتصاديون تلك الإشارة الشهيرة التي أطلقها مؤسس علم الاقتصاد الحديث- آدم سميث - في كتابه(بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم) الصادر عام 1776، أي: اليد الخفية؛ بمعنى أن الحياة الاقتصادية تتوازن تلقائيا بفعل التعادل بين جانبي العرض والطلب؛ وأنه إذا حدث اختلال في العلاقة بين الجانبين فسرعان ما يتم تصحيحه بدون تدخل من الدولة أو أية قوة اجتماعية منظمة، وذلك بفعل آلية غير مرئية أو محسوسة أطلق عليها تعبير (اليد الخفية)، كما قلنا.
ولم يكن هذا جوهر الإضافة التأسيسية الحقيقية لآدم سميث في تكوين علم الاقتصاد، كما سنرى. فهو أبو (علم الاقتصاد الكلاسيكي)- كما يطلق عليه- والذي جاء بعد مدرستين فكريتين على المدى الزمني الفاصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، وهما مدرسة التجاريين، ومدرسة الطبيعيين أو الفيزيوكرات. وكان التجاريون ينظِّرون في الحقيقة للممارسة الفعلية التي قامت بها وعليها إمبراطوريتا البرتغال وأسبانيا، خاصة أسبانيا، بعد ما سمي بحرب الاسترداد، وسقوط الأندلس. وكان أساس هذه الممارسة- خلال القرن السابع عشر وشطر من القرن الثامن عشر- بناء جيش إمبراطوري قوي، يعمل في خدمة الدولة، على طريق الكشوف الجغرافية واستعمار عوالم جديدة في كل من (الأمريكتين) وفي القارتين الآسيوية والإفريقية، بالإضافة إلى بناء منطقة التوسع الأساسية للدولة الأسبانية داخل القارة الأوربية نفسها. عكست المدرسة التجارية-أو المركنتيلية- في الفكر الاقتصادي احتياجات الدولة الإمبراطورية الجديدة، فبلورت فلسفة قوامها ضرورة تكوين فوائض اقتصادية للدولة، تنجم من الفائض التجاري مع العالم الخارجي، خاصة المستعمرات ومناطق النفوذ، وأن هذا الفائض يتأتى من زيادة الصادرات عن الواردات. و رأى التجاريون أن ذلك لا يمكن ضمان تحقيقه إلا من خلال سياسة قوية لجهاز الدولة، محورها ما يسمى بالمذهب الحمائي، أى فرض قيود على حرية التجارة الخارجية، يكون من شأنها حماية الاقتصاد المحلي واقتصاد المناطق المستعمرة، في وجه الاقتصادات الأجنبية. وتشير كتابات التاريخ الاقتصادي إلى أن هذه العملية تمت من خلال ( النظام الكولونيالي) أو " نظام المستعمرات"، والذي سارت عليه بريطانيا وفرنسا أيضا، من بعد أسبانيا. وقوام هذا النظام حماية أسواق المستعمرات الناشئة فى مطالع العصور الحديثة من منافسات الأطراف الأخرى، وتشييد أسوار عالية من حولها، تحتجزها من دون الدول القوية الأخرى، وهي دول أوربية جميعها.
بعد التجاريون جاء (الطبيعيون)- خاصة في فرنسا القرن الثامن عشر-ودعوا إلى بذل الاهتمام الأساسي، ليس للتجارة الخارجية، ولكن للزراعة والمراعي، أي للإنتاج النباتي والحيواني.
لكن تفجر الثورة الصناعية، انطلاقا من بريطانيا، وخاصة مع اختراع المحرك البخاري المحسّن لجيمس واط عام 1776، قلب كل الأمور رأسا على عقب. فقد أصبحت الصناعة- رويدا رويدا- هي قاعدة النظام الاقتصادي والاجتماعي الأوربي، بدلا من الزراعة والتجارة، وأصبح التقدم التكنولوجي وإقامة المصانع واستخدام العمل المأجور هي أسس النظام الرأسمالي الناشىء.
حينئذ جاء آدم سميث- الذي صدر كتابه العمدة في نفس السنة التي ظهر فيها محرك جيمس واط- ليعبر عن متطلبات النظام الاقتصادي والاجتماعي الجديد: الصناعة، المصنع، تراكم رأس المال، تأجير العمل، تقسيم العمل. ونضع تحت الكلمتين الأخيرتين( تقسيم العمل) ألف خط للتشديد. فتقسيم العمل، من وجهة نظر آدم سميث، هو تقسيم للعمل الاجتماعي، قوامه تفرغ القوى الحية للأمة أي رأس المال والعمل، لتطوير الصناعة من خلال بناء المصانع؛ ومن ثم توليد نوع من تقسيم( العمل الفني) داخل المصنع نفسه، عبر تقسيم العملية الإنتاجية الواحدة إلى سلسلة من العمليات التصنيعية يقوم على كل منها عمال متخصصون، مهما كانت هذه العملية ضئيلة الشأن في الظاهر، ضاربا لها مثلا بعملية تصنيع دبوس الإبرة.
كما أن العلاقة بين الأمم لابد أن تقوم- هي أيضا- على تقسيم العمل فيما بينها، وفقا لما تملكه كل منها من (مزايا مطلقة)، في إنتاج السلع المختلفة. وعلى أساس هذا التخصص تقوم التجارة الدولية، بعيدا عن تدخل الدولة لفرض أنماط من التبادل لدواعٍ سياسية أو عسكرية، كما كان يرى( التجاريون). فبدلا من التدخل التحكمي للدولة ينبغي كفالة الحرية للمنتجين لتصنيع ولتبادل ما يصنعونه عبر العالم. ومن هنا نادي آدم سميث بشعاره الأثير، مشيرا بإصبعه إلى جهاز الدولة، وقاصدا إلى التيسير على المنتج الصانع (خالق القيمة الاقتصادية للسلعة بناء على عنصرالعمل في رأيه)، شعار: دعه يعمل، دعه يمر. أي: فلتوفر الدولة إطار الحرية للمنتج من أجل أن يعمل، ثم من أجل أن يعبر الحدود، مارّا من دولة إلى أخرى يبادل منتجاته، دون قيود جمركية أو غيرها.
تلك كانت الفكرة النظرية الأساسية لآدم سميث: تقسيم العمل الاجتماعي داخل كل أمة، وتبادل منتجات الأمم وفق قاعدة التخصص والمزايا المطلقة، بحرية. من هنا جاء عنوان كتابه عن طبيعة وأسباب (ثروة الأمم).
وقد جرت مياه كثيرة في الأنهار بعد سميث ورفيقه دافيد ريكاردو. فبعد اقتصادهما الكلاسيكي للقرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن من القرن التاسع عشر، وبعد اكتمال بناء القواعد الإنتاجية في الدول الأوربية، واستقرار علاقاتها (الاستعمارية) مع إفريقيا وآسيا، وخاصة بعد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية- عام 1776 أيضا..!، ظهر فيما يبدو أن مرحلة( الإنتاج) قد استنفدت أغراضها، وأن عصر( التبادل)قد أطلّ: حينذاك ظهر المفكر الاقتصادي ألفرد مارشال، وتبعته كوكبة على دربه، شقت طريقا غير معبّدة، أطلق عليها المؤرخون الاقتصاديون مسمى (الكلاسيكية الجديدة) وأطلقوا عليهم " النيو كلاسيك"، والذين كان لهم بعد ذلك شأن كبير.
وقد انتقى الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد من بين أفكار آدم سميث فكرة واحدة ليس غير: الحرية الخاصة دون قيود، وكف تدخل الدولة، وأن الدولة( حارسة فقط) تتولى وظائف الأمن ومرفق القضاء. وحاولوا إثبات هذه الفرضية المجتزأة بترسانة من أدوات التحليل الرياضي لسلوك المنتج والمستهلك على المستوى الجزئى، أو (المايكرو)، كأساس نظري تبريري لحرية المشروعات الخاصة، في ظل المنافسة، لاسيما "المنافسة الكاملة". وقد أدى نهج اقتصاد السوق الحرة الخالصة خلال العقود الزمنية الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وما صاحبه من منافسات دولية ومن تصعيد لحمّى الصراعات العالمية، إلى نتائج كارثية، أوربيا وعالميا، مما أدى إلى ظهور مدرسة أخرى في الفكر الاقتصادي الرأسمالي، كما ذكرنا في مقام سابق، هي نظرية اللورد كينز القائمة على تدخل الدولة ، من أجل تصحيح الاختلالات التي لاتنجح المشروعات الخاصة وحدها في معالجتها، لاسيما البطالة ونقص التشغيل وكساد الأسواق.
عبر مرحلة زمنية ممتدة وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولأكثر من ربع قرن، تبارت المدرستان الفكريتان: الكينزية داعية إلى تدخل الدولة، و(النيوكلاسيكية) داعية إلى الحرية الخالصة من أي قيد. وتدعمت المدرسة الأخيرة بجماعة أخرى من الاقتصاديين يسمون (النقديون الجدد) في الستينات والسبعينات، بزعامة ميلتون فريدمان. وسرعان ما تحلق النيو كلاسيك والنقديون تحت لواء عريض، يقوده من الناحية السياسية والعقائدية (المحافظون الجدد)، ومن الناحية الاقتصادية( الليبراليون الجدد). وتربع الآخرون على عرش الفكر الاقتصادي وصنع السياسات الاقتصادية العالمية، وترتب على نصائحهم، خاصة بالنسبة لكثير من البلاد النامية، شرّ كثير. ونتج هذا الشر من عدم إدراك الفحوى الحقيقي للدعوة إلى اقتصاد السوق، الاقتصاد الحر من التدخل الحكومي بالذات.
والحقيقة أن البلاد النامية لا تتوفر بها عموما المقومات الحقيقية لاقتصاد السوق أصلا، و من ثم لا تتوفر الظروف الملائمة للأداء الصحيح لقوى العرض والطلب، ولتشغيل الجهاز السعري. بتعبير آخر، إن الأسواق في هذه البلاد (غير مكتملة) نسبيا، والأسعار مشوهة، ولا تعكس القيم الحقيقية لكل من المنتجات وعوامل الإنتاج- سواء بفعل القوى الاحتكارية الخاصة أو بفعل التدخلات غير الرشيدة لجهاز الدولة، بأدوات القوة الجبرية والتسعير الإداري، وبواسطة سياسة الدعم والإعانات.
لذلك أخذ بعض الاقتصاديين الكبار في الغرب نفسه يدركون أن من الواجب تصحيح (الانحرافات) و(أوجه الفشل والإخفاقات لقوى السوقMarket Failures )، وأن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بإقامة المؤسسات القادرة على التعامل بكفاءة مع المتطلبات السوقية. وسبق أن رأينا أن رجلا مثل جون وليامسون – من البنك الدولي- اكتشف التشويه المتعمد، أو غير المتعمد، الذي لحق بأفكاره وأفكاربعض زملائه في البنك الدولي والمعبّر عنها بما سُمِّي:إجماع أو توافق واشنطون. فقد فهمت دعوته إلى التحرير الاقتصادي، أو " اللبرلة" على أنها تحمل نوعا من العقيدة المتحجرة حول حرية الأسواق. ولذا دعا إلى إعطاء الأولوية في السياسات الاقتصادية للدول النامية إلى إقامة البنى المؤسسية الفعالة لاقتصاد السوق، كشرط لفاعلية ولكفاءة هذا الاقتصاد نفسه. وبالتوازي مع مثل هذه المحاولة تبلور تيار فكري كامل سمّي بالتيار المؤسسي (أو المؤسساتي) ،كما برز تيار آخر ينادى بالتحول من مجرد الدعوة الغامضة الخاصة باقتصاد السوق إلى (اقتصاد السوق الاجتماعي).
وكنا قدّرنا أن هذا المقال سيركز على البعد المؤسساتي لاقتصاد السوق، ولكن ها قد أخذتنا سياحة الأفكار بعيدا نسبيا، في سباحة ربما كانت ضرورية.
فلنذهب إذن دون إبطاء إلى البعد المؤسسي، من الجانب التطبيقي، في مقالنا القادم، إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات: