2008/09/20

مصر: ثلث قرن من الحكم يلغي الفروق بين السياسة والعمل الاهلي!


لكي نتعرف على المزيد مما آلت إليه أحوال الدولة المصرية فلنتابع معا مشهدين من مشاهد عديدة يزدحم بها عالم السلطة في القاهرة، وهما يتعلقان بطبيعة العقلية التي عملت على انهيار الدولة وإنهاء دورها.. المشهدان غابت فيهما السيادة والسياسة.
فالاول ذو علاقة بالسيادة، تعبر عنه صورة مأساوية في منطقة الحدود (المصطنعة) بين مصر وفلسطين، والمشهد الثاني على علاقة بالسياسة، وتابعناه في الأسابيع الأخيرة، وبالتحديد مع قرب حلول شهر رمضان الكريم، وظهر في شكل صناديق (كرتونية) بها كميات من الدقيق والمكرونة والسكر والزيت، يوزعها حسني مبارك على المصريين بمناسبة الشهر المبارك. ومن المفترض أنهم في الأصل مواطنون، ليسوا موالي ولا طالبي صدقة ولا متسولين.. يقفون على الأعتاب ينتظرون الإحسان، ومع ذلك فحسني مبارك يعاملهم من موقع ولي النعم ومانح الصدقات، ولم ينس أن يقدم صورته مع الصندوق، وقد تعامل معها البعض بما هو متوقع. منهم من ألقى بها في وجه من أحضرها، وآخر داسها بقدمه، في نفس الوقت كانت فرصة لأعضاء من الحزب الحاكم لسرقة كثير منها، لأنفسهم ولأهليهم، ومنهم من باعها للتجار والبقالين!!
ومن المفترض في المشهد الأول أن سيناء قطعة من التراب الوطني المصري يخضع لسيادة الدولة. ونجده يحتوي وجهين متناقضين.. وجه تعاملت به السلطات مع المستوطنين والمغتصبين وسائحي الدولة الصهيونية. سمح لهم بالدخول والخروج والعربدة. يسرحون ويمرحون، بغير إذن ولا تصريح من سلطات تدعي السيادة على الأرض.. وأكثر من هذا قدمت لهم التسهيلات والخدمات وحُمِلوا على كفوف الراحة.. والوجه الآخر على النقيض. تعاملت به نفس السلطات مع الفلسطينيين.. تمنعهم وتحاصرهم وتتفنن في تجويعهم، معتمدة على أحمد أبو الغيط المتحفز لكسر أرجل من يحاول اجتياز المعبر من الفلسطينيين!! وعنده حق فهم ليسوا صهاينة ولا مغتصبين ولا عنصريين، ومشكلتهم أنهم من جنس العرب وغالبيتهم من المسلمين، وما داموا كذلك فقد حقت عليهم لعنة أبو الغيط وسيده. والمعروف أن الذين يريدون عبور رفح إما طالب يود الالتحاق بدراسته، أو مريض يبحث عن علاج، أو باحث عن طعام أو وقود، يخفف بهما وطأة حكم الموت البطيء الصادر ضد القطاع. هذه الصورة أحيطت بصخب وإفك إعلام أسود.. أتقنت صناعته مافيا لها أبواق وخناجر تدعي وقوف حسني مبارك إلى جانب الفلسطينيين، ودونه لن ينالوا من حقوقهم شيئا!!، والواقع يقول انه لولا موقف حسني مبارك وعناده ما تمكن الحصار من الفلسطينيين، ولاستمرت المقاومة وقطعت شوطا على طريق التحرير. ويعود هذا الموقف في معركته مع غزة باعتبارها امتدادا لمعركته مع المصريين، فيذيقهم من نفس الكأس الذي تتجرعه مصر، عقابا لها في تحديها للتزوير وايصالها لأكثر من مئة نائب مستقل (أغلبهم من الإخوان المسلمين) إلى مجلس الشعب، ولنفس السبب يعاقب أهل غزة فقد مكنوا حماس من الحصول على الأغلبية في المجلس التشريعي، وعليه تمكنت من تشكيل الحكومة. ولا يجب أن يغيب عن الذهن أن حسني مبارك إنما يؤدي دورا مطلوبا منه تجاه الدولة الصهيونية، وحصار غزة أحد واجباته.
وفقدان السيادة الوطنية على سيناء، يؤكد الرضوخ لمطالب الدولة الصهيونية، وحسني مبارك أول من يعلم أن قرار فتح معبر رفح قرار صهيوني، ومفتاحه في تل أبيب وليس القاهرة. وبواخر المساعدة الأجنبية تمكنت من كسر الحصار لأنها دخلت من الجانب الخاضع للسيطرة الصهيونية، أما قافلة المساعدات الاسكتلندية لم تتمكن لأنها طرقت أبواب رفح المصرية!، ومشكلة حسني مبارك أنه يراهن على ما يتصوره ضعفا في الذاكرة العامة، ويغطي العجز باسم الأمن القومي، وفي الحقيقة أنه باسم الأمن القومي يداري عجزه ويغطي التزامه بمعاهدة كامب ديفيد. وهي تنص في المادة الرابعة من البروتوكول الملحق بها على فتح حدود مصر للصهاينة (الإسرائيليين كما في النص) وتسمح لهم بحرية التنقل داخل سيناء. ولهذه المعاهدة قيمة كبرى، من وجهة النظر الصهيونية، عبرت عنها صحيفة 'هآرتس' في 21 آب/اغسطس الماضي وهي تجيب على سؤال يتعلق بما أسمته التنازل عن سيناء!. فقالت ان 'المعاهدة لم تكن مجرد صفقة جيدة بل انجازا عظيما، وأحد الانتصارات السياسية الكبرى في التاريخ. منحت الدولة الصهيونية عشرات السنين دون حرب مع مصر، وهي نتيجة لم يكن ممكنا تحقيقها بطريقة أخرى. وخروج مصر سلب سورية خيار الحرب مع الدولة الصهيونية لعشرات السنين أيضا. بجانب أنها خفضت النفقات الأمنية والعسكرية كثيرا. بشكل أسهم في انطلاق الاقتصاد، أحد أسس القوة الرئيسية للدولة'، ولم تنس الصحيفة أن تتطرق إلى طبيعة النصر الذي تحقق للدولة الصهيونية بفعل المعاهدة، فاستطردت: 'مكنت المعاهدة الجيش الصهيوني من الاحتفاظ بقوات محدودة على الحدود الجنوبية، ووجهت أغلب قواتها إلى جبهات أخرى.
وفي العادة يقال ان السلام وضع ليس فيه منتصرون ومهزومون. حيث تقبل الدولتان الجارتان شرعية بعضهما بعضا، وهذا يفهم ضمنا لو تحقق السلام والمصالحة الحقيقية بين مصر والدولة الصهيونية، ولصح أن نقول ذلك عن هذا السلام أيضا. لكن إذا كانت النخب المصرية ما زالت ترى (إسرائيل) نبتة غريبة في المنطقة، وغير شرعية ومكروهة، والتسليم بوجودها يتم قسرا وبلا رغبة.
ومع ذلك ينبغي أن نعترف بأن عشرات السنين بلا حرب مع مصر أدت إلى وضع تحقق فيه الانتصار لدولة (إسرائيل) الصهيونية'!!. هذا ما ذكرته الصحيفة الصهيونية. من جهة أخرى فإن حسني مبارك لن يرفع الحصار إلا مرغما، وهنا يأتي دور الجهد الشعبي المصري لفرض هذا الإرغام!
والجهد الشعبي لم يتمكن من كسر الحصار حتى هذه اللحظة.. كان آخر ما قام به متمثلا في استجابة جماعات سياسية وأهلية ونقابية وأكاديمية لدعوة الإخوان المسلمين لكسر الحصار والتحرك صوب غزة بالمساعدات والمؤن والأدوية، وهذا موقف بدا متطورا من طرف الإخوان، فهذه من المرات النادرة التي سعت فيها الجماعة إلى مشاركة الآخرين. ولا نعلم إن كان هذا اتجاها جديدا لمكتب الإرشاد، أم جاء بتأثير القيادات الشابة، مثل حمدي حسن وزملائه من أعضاء كتلة الإخوان في مجلس الشعب، على الحرس القديم. فتغير مبدأ 'المشاركة لا المغالبة' من الاتجاه صوب الحكم إلى الميل نحو القوى السياسية المناهضة للحكم، وإذا ما كان هذا صحيحا فسوف يسجل ليوم العاشر من رمضان/ العاشر من ايلول/سبتمبر هذا العام أنه يوم تحول في تاريخ الجماعة وفي علاقاتها بباقي القوى والجماعات المعنية بالهم العام.
والمهم أن جهود المصريين لكسر الحصار ما زالت أدنى من التغلب على وحشية الأمن، وأقل من القوة المطلوبة لتحييده، وقد تمنى كثيرون على قوات الأمن الاكتفاء بمنع المرافقين للقافلة وترك المؤن والأغذية والأدوية تذهب للمحاصرين، إلا أن التجبر والتوحش وتعليمات حسني مبارك الصارمة أبى عليها ذلك، فأضافت إلى سجله وسجلها عارا آخر يبدو أنه صدم البعض، وما كان لهم، من وجهة نظري، أن يصدموا. فتعليمات حسني مبارك تمنح الضمان والحماية لكل ممارسة وحشية وغير إنسانية وغير أخلاقية لأجهزة الأمن والحكم، ولو حدث غير ذلك لكان الأمر مستغربا!، وروحه هذه بثها بين أفراد عائلته ومساعديه! ومن أجل ذلك أغرقهم بالمال والفساد والجريمة.
والمشهد الثاني به دلالة لا تخطئها العين. أثبتت أن اعتلاء كرسي الحكم لثلث قرن.. ست سنوات نائبا للرئيس وسبعة وعشرون عاما في مقعد الرئيس، لم تغير منه شيئا، وهذه العقود الطويلة لم توفر الإلمام بألف باء السياسة، ولا اختلافها عن النشاط الأهلي والخيري. للسياسة نظام وقانون وسلطات ومؤسسات، وإدارة وجيش وشرطة وضرائب، وأجهزة متخصصة ومسؤولية سياسية وتنظيمية. والنشاط الأهلي والخيري ليس فيه شيء من هذا، وهو جهد فردي أو جماعي أساسه المساعدات والتبرعات المالية والعينية. الأولى تنظم وتدير وتوجه وتضبط وتحمي الوطن والمواطن وتوفر سبل الحياة الكريمة، وتتصدى للمشاكل والتحديات وتضع الحلول والبرامج والخطط، أما الثاني فهو عمل تطوعي أقصى ما يحققه هو التخفيف من وطأة الحياة على مواطنين وفرت لهم السياسة سبل الحياة الكريمة، وكفلت لهم حق التعليم المجاني والصحة المجانية والعمل والسكن والرعاية في حالة العجز والشيخوخة، وحينما يتصدق حسني مبارك على المصريين فمعنى هذ أنه لم يتعلم شيئا لا في السياسة ولا في غيرها، وإلا ما تدنى في نظرته للمواطنين كغير متساوين معه ولا أنداد له، وليسوا سوى متسولين وعجزة وذوي حاجة، ولا جَهِل المسؤولية السياسية فيما تهدف إليه من رفع مستوى المعيشة، ومحاربة الفقر، والقضاء على الرشوة ومقاومة الفساد وإتاحة حق العمل، وليس فرص العمل الخادعة. التي يدعيها رجال الأعمال الحكام.. فبينما يغلقون المصانع ويبيعون المؤسسات ويطردون العاملين يدعون توفير فرص عمل، وهم في حقيقتهم يقلصونها، ولأنهم كذلك سمحوا لأنفسهم أن يتعاملوا مع المصريين بهذا المستوى، وبدلا من مساعدة الناس على مواجهة الأعباء والأزمات، نفذ هذا العمل بطرق مهينة، في محاولة للتغطية على ما أصاب البلاد من أضرار فاقت أضرار الحروب التي شاركت فيها مصر، والأرقام تعلن بوضوح أن ضحايا حكم 'عائلة مبارك' تجاوزوا شهداء مصر على مدى أكثر من قرن، منذ الاحتلال البريطاني وحتى الآن.
بعد كل هذه السنين يكتشف الناس أن من يحكمهم لا يميز بين العمل السياسي، وبين العمل الأهلي والخيري، ولأن الدولة انحسرت وغابت فلم يبق أمامه هو وشركاؤه، من رجال الأعمال، في الثروة والحكم والنفوذ، إلا السخرية من البسطاء والطيبين، بصدقة هنا وإحسان هناك، ليثبت في النهاية أن اعتلاء كرسي الحكم لا يخرج سياسيا ولا يصنع حاكما إذا ما افتقد الموهبة والحضور والذكاء والعلم. وقديما سمعنا شاعر الربابة ونحن صغار يقول: 'لا كل من لبس العمامة يزينها ولا كل من ركب الحصان خيال' وهو ما ينطبق تماما على حال مصر مع مغتصبي حكمها دون دراية أو قدرة أو معرفة!

' كاتب من مصر يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات: