2008/09/15

نكتة التجسس الأمريكي على الحكومة العراقية



د. فيصل القاسم

كشف كتاب جديد ألفه بوب وودرود الصحافي في "واشنطن بوست" الذي اشتهر في كشف قضية "ووترغيت" أن الولايات المتحدة كانت تتجسس على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحكومته. وأعلن المتحدث باسم الحكومة العراقية أن العراقيين "سيطرحون المسألة" على نظرائهم الأمريكيين، وسيطلبون "تفسيراً". وقال علي الدباغ "إن كان هذا صحيحاً، إن كان واقعاً، فهو سيعني أنه ليست هناك أجواء ثقة".

لا يسع المرء وهو يقرأ "السر" الجديد الذي أماط عنه اللثام بوب وودرود إلا أن يضحك بملء شدقيه، هذا إذا لم يدخل في نوبة ضحك مجلجل على هذه النكتة الفظيعة. فهذا النوع من السبق الصحفي في لعبة الإعلام ليس هدفه أبداً الكشف عن أسرار، أو فضح الخبايا، بل التعتيم أولاً وأخيراً على قضايا أكثر خطورة بكثير. فكل من يعتقد أن مهمة الإعلام هي دائماً الإعلام مخطئ تماماً، ففي كثير من الأحيان تلعب وسائل الإعلام دور المضلل والمتستر أكثر منه دور الفاضح والكاشف. فمثلاً نجد الصحف أحياناً تركز بكثافة على موضوع ما، فيأخذ القراء الانطباع أنه مهم وجدير بالاهتمام، بينما يتم التركيز عليه في واقع الأمر لتحويل الأنظار عن أمور وقضايا خطيرة لا تريد السلطات أن تصبح محط اهتمام الناس ومتابعتهم. وعلينا دائماً أن نفتش عن الأمور التي لا تحظى باهتمام إعلامي، لأنها قد تكون أكثر خطورة وأهمية بعشرات المرات مما يتم تقديمه لنا من أخبار وتقارير وتغطيات. وفي كثير من الأحيان يكون خبر صغير للغاية مدفون في أسفل صفحات الجرائد أهم ألف مرة من المانشيت الرئيسي أو العناوين الرئيسية البارزة على الصفة الأولى. ولا أبالغ إذا قلت إن بعض وسائل الإعلام تغطي على الأخبار الحقيقة، أي تحجبها بدلاً من تغطيتها بالمعنى الإعلامي المتعارف عليه، أي كشفها وإبرازها.

ولا أبالغ إذا قلت مرة أخرى إن كل "الأسرار" التي كشفها الإعلام الأمريكي عما يحدث في العراق هي من النوع التضليلي التعتيمي بامتياز. وبدلاً من التصفيق مثلاً للذين زعموا بأنهم أماطوا اللثام عما يحدث في سجن "أبو غريب" على أيدي القوات الأمريكية، يجب علينا إدانتهم، لأنهم، في واقع الأمر، متورطون في لعبة تضليل كبرى هدفها التركيز على قضايا هامشية والتعتيم والتستر على القضايا الكبرى التي تحتاج فعلاً إلى فضح وتعرية إعلامية حقيقية.

أكاد أن أجزم مثلاً بأن الهدف من تعميم صور المساجين العراقيين على وسائل الإعلام العالمية وهم يتعرضون للتعذيب على أيدي الجنود الأمريكيين في سجن أبو غريب، ومن ثم معاقبة بعض الجنود المسؤولين عن ذلك لهو تعتيم على ما يجري فعلاً على أرض العراق من مجازر وبشاعات حقيقية تفوق في بربريتها ما حدث للسجناء في أبو غريب بمئات المرات. إذن نحن بصدد عمليات تعتيم إعلامية خطيرة للغاية وليس عمليات فضح. فليس من الضروري دائماً أن يكون التعتيم بالحجب، فما المانع أن يكون بالنشر إذا كان يؤدي نفس الأغراض وأكثر.

أليس حرياً بكل ذي عقل سليم أن يتساءل:" هل يُعقل أن القوات الأمريكية والبريطانية ومن لف لفها من قوات غازية أخرى أن يكون همها معاقبة جندي أمريكي أو بريطاني ضرب بعض المساجين العراقيين بالسياط وهم عراة، وأظهرهم بوضعيات جنسية قبيحة وهي التي اجتاحت العراق من أقصاه إلى أقصاه، وأفرغت فوق رؤوس أهله آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً؟ كيف نصدق عطف الغزاة وحنانهم على مساكين أبي غريب وهم الذين سووا مدينة بأكملها كالفلوجة بالأرض، وشردوا أهلها عن بكرة أبيهم، وهم الذين يصطادون العراقيين كالعصافير، وهم الذين يرهبون النساء والأطفال والعجزة من خلال عمليات دهم ليلية رهيبة، وهم الذين يعاقبون مناطق بأكملها بالحصار والترويع والاعتقالات العشوائية وتدمير المنازل على الطريقة الإسرائيلية وعمليات التفتيش اللاإنسانية، وهم الذين يروعون المصلين في المساجد، ويدنسون حرمة أقدس الأماكن الإسلامية لدى الشيعة والسنة على حد سواء؟؟

إن قوات الاحتلال ووسائل الإعلام الغربية التي تخدمها بحرفية بارعة تريد أن تعطي للعالم انطباعاً بأن عمليات التعذيب في سجن أبي غريب هي أسوأ وأبشع ما حدث في العراق منذ الغزو. وهذا طبعاً كذب مفضوح. إن ضجة سجن أبي غريب الإعلامية تذكرنا تماماً بالمقولة الفرنسية الشهيرة:"الشجرة التي تحجب الغابة"!

وما ينطبق على نكتة أبو غريب ينطبق بنفس الدرجة على الهمروجة الجديدة التي طلع بها علينا بوب وودرود حول تجسس الأمريكيين على الحكومة العراقية. إن الكاتب يريد أن يعطي الانطباع بأن حكومة المالكي حكومة مستقلة وذات سيادة وممسكة بزمام أمور العراق، لا بل إن المحتلين الأمريكيين يخشون مما تخططه، وبالتالي ليس أمامهم سوى التجسس عليها. وهذا طبعاً ضحك على الذقون. فلو لم تكن الحكومة العراقية تعيش في حضن القوات الأمريكية فيما يسمى بالمنطقة الخضراء، ولا تستطيع أن تحرك ساكناً من دون الإذن الأمريكي، لصدقنا رواية وودرود. لكن تلك الحكومة الألعوبة تحت نظر الأمريكان بكرة وأصيلاً، ولا يمكن أن تتنفس من دون أن يسمع الأمريكان صوت زفيرها وشهيقها، كيف لا وهم يحكمون قبضتهم على المنطقة الخضراء بأجهزة مراقبة وتنصت تستطيع رصد دبيب النمل ودقات قلب المالكي وشركاه. إذن رواية التجسس الأمريكية على الحكومة العراقية جديرة فقط بأن توزع على أجهزة الموبايل كأحدث نكتة لا أكثر ولا أقل.

وإذا كان الكشف الأمريكي عن طرفة التجسس مضحكاً، فإن الأكثر إثارة للسخرية والتهكم تصريح الناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ بأن حكومته غاضبة، وتريد "تفسيراً". لا شك أنه بهذا التصريح الظريف يضفي على المسرحية الأمريكية مزيداً من الإثارة والبهارات بزعمه أن حكومته صاحبة شأن ومستاءة من التصرف الأمريكي. فعلاً صدقناك يا سيد دباغ، وصدقنا وودرود فاضح الأسرار!!

لو كان بوب وودرود مهتماً فعلاً في كشف أسرار الأمريكيين وفضحها في العراق لأماط اللثام مثلاً عن البنود السرية فيما يسمى بالمعاهدة الأمنية طويلة الأمد بين الأمريكيين وحكومة المالكي. فهي مليئة بالأسرار الحقيقية، بدلاً من تسليتنا بخزعبلات لا تنطلي حتى على تلاميذ المدارس.

قال ماذا، قال: الأمريكان يتجسسون على المالكي. هل يعقل أن يتجسس شخص على آخر يجلس في حضنه؟ ثم متى تجسس الراعي على الغنم؟ فعلاً هزلت. العب غيرها!

ليست هناك تعليقات: