2008/05/31

هكذا يكون الرجال

بسم الله الرحمن الرحيم

د. مخلص الصيادي

لم يكن خطاب السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في عيد التحرير والانتصار خطابا مناسبة ـ والمناسبة جليلة ـ وإنما كان خطابا استراتيجيا حمل في طياته رؤية ونظرية وبرنامج عمل ، وكشف عن إجابات لكثير من الأسئلة ، بل إن الأسئلة التي لم تجد إجاباتها المباشرة في خطاب السيد ، وجدت جوابا مرتقبا لها ، فقد قال بعبارات واضحة أن قضايا بعينها لن يتحدث عنها الآن ، لكنها ستكون موضع حديثه في وقت لاحق .

الوضوح والصراحة في الخطاب أزعجت الكثيرين ممن كانت لهم أدوارا مشبوهة في المرحلة السابقة ، وكانوا يتطلعون من السيد الى خطاب يغطي فضائح تلك المرحلة ورجالاتها ، ويتجاوز عن ما بات معروفا من خطط بيتت في ليل للبنان والمنطقة ، لكن الرجل الذي عرف عنه الناس جميعا الصدق والوضوح خيب آمال هؤلاء ، وصدًق ظن الناس به ، فجاء خطابه على النحو الذي جاء به .

فلسفة المقاومة ونظريتها

في خطابه قدم سيد المقاومة نظرية المقاومة في التحرير والدفاع بآن ، وقال باختصار إن المقاومة المسلحة هي وحدها القادرة على تحرير الأرض ، وهي وحدها القادرة على الدفاع عن الوطن : عن الأرض وعن المواطن ، وقدم هذه النظرية التي جرى اختبارها في لبنان الى الأمة العربية مطالبا إياها باعتمادها سبيلا لمواجهة العدوان ، ولم يقدم هذه الاستراتيجية كبديل أو خيار آخر ينظر فيه قادة الأمة وقواها الرسمية والشعبية ، وإنما كخيار وحيد ، فما يتبع الآن من النظام العربي ، وما يروج له كتاب وصحفيون وقوى سياسية بشأن طريق التفاوض ، وطريق التعاون مع الولايات المتحدة ، أي طريق أوراق الأمة الموضوعة بين كفي الإدارة الأمريكي ، ليس طريقا أو خيارا في موازاة طريق المقاومة ، وإنما هو سبيل لضياع الأمة وذلها ،وهو سبيل مجرب تماما كما سبيل المقاومة ، وبينما حقق طريق المقاومة ونهجها عزة الأمة وقوتها ومنعتها، حقق طريق التسوية والتفاوض ذل الأمة وهوانها وضياع حقوقها.

وفي حديثه عن المقاومة كشف "نصر الله" عن مفهوم رئيس يتصل بمشروعية المقاومة، وهذه قضية شديدة الأهمية ، وشديدة الخطورة ، في هذا الزمن ، وفي كل زمن،

لقد وصفت المقاومة وحركاتها باستمرار بأنها حركات تمرد ، أو إرهاب ، أو عصابات قتل ، هكذا كان يقول دائما المستعمرون وحلفاؤهم ، وهكذا كانوا يروجون مستهدفين تكوين ثقافة عامة ضد المقاومة والمقاومين ، ومع تطور وسائل الإعلام وازدياد أهميتها وشمولها كثفت قوى الطغيان والعدوان من حملتها ضد المقاومة ، بل إنها جعلت ـ عن غير حق ـ دعوة الديموقراطية نقيضا لدعوة المقاومة ، فما دامت الديموقراطية هي التي تعطي المشروعية لأي حكم ، فإن هذا يعني أن المقاومة المسلحة القائمة على المبادرة والتضحية لا شرعية شعبية لها وبالتالي لا شرعية حقيقية لها. إن هذا المنطق المغلوط كشف عن نفسه في التجربة الديموقراطية في فلسطين المحتلة حينما اختار الشعب الفلسطيني المقاومة ومنظماتها لتعبر عنه ،

لكن "نصر الله" تناول موضوعية الشرعية من جذرها ، حيث أوضح أن مشروعية المقاومة مصدرها المقاومة نفسها، أن مصدرها وجود الاحتلال ، وبالتالي فهي ليست بحاجة الى أي مشروعية إضافية ، إن مشروعية المقاومة منبثقة من فطرة الإنسان في مقاومة العدوان ، ومن سنة الله في جعل المقاومة للعدوان جوهر مفهوم الجهاد الذي لا يحتاج لمن يشرعه لأنه من نوع جهاد الدفع . ولقد جاء بسط نظرية شرعية المقاومة مهما جدا وخصوصا لمستقبل المقاومة في لبنان نفسه ، فما دام هناك احتلال وما دام هناك عدوان فإن المقاومة لا تحتاج الى أحد كي يشرعنها .

ونظرية المقاومة التي اعتمدت في لبنان ، اعتمدت أيضا في فلسطين ، وأعطت الثمار نفسها ، واستطاعت المقاومة في فلسطين وفي لبنان ، أن تحجم دور وقدرة الكيان الصهيوني ، وأن تظهر حدود ما يستطيع أن يفعله ، وبالتالي أن تكشف انتهاء منحنى الصعود في حياة هذا المشروع ودخوله مرحلة الانكماش والتراجع والعجز عن تحقيق ما كان قد رسم له من دور.

ولقد جاء حديث نصر الله عن العراق والمقاومة في إطار نظرية المقاومة المسلحة ، فهو صاحب موقف أصيل الى جانب المقاومة المسلحة ، ثم إنه نزع الستار الذي تدثر به البعض للتعاون مع المحتل بأعذار شتى ، وقال بوضوح إن الانحياز الى طريق المقاومة وأسلوبها ما كان يوما خيارا في العراق ، ولم يعد الآن لأحد عذرا في عدم الإسراع للالتحاق به ،

إن هذا الذي عرضه نصر الله لا يعني أن أحدا كان معذورا في التعامل مع المحتل ، بدعوى إتباع نهج العمل السياسي، ولكنه قول يتضمن معنى فتح الباب لمن يريد أن يلتحق بخط المقاومة ، وإسقاط لكل الذرائع والتبريرات في تنكب هذا الطريق .

بكلمات موجزة ، وواضحة ، ليس هناك في العراق غير طريق المقاومة المسلحة لتحرير العراق ، وليس هناك في العراق غير طريق المقاومة المسلحة لحماية العراق من مخاطر الاحتلال ومن كل خطر يتهدد هذا البلد : خطر التقسيم الطائفي والعرقي ، وخطر إضاعة ثروات العراق وإمكانياته المتنوعة ، وخطر التلاعب بمستقبله .

اتفاق الدوحة : ُصناعُه وآفاقه

من صنع اتفاق الدوحة ، وما هي حقيقة الحضور المكثف الدولي والعربي في جلسة انتخاب الرئيس ميشيل سليمان وما دور هذه الرعاية في صنع اتفاق الدوحة ؟!

هذه الأسئلة وغيرها أجاب عنها نصر الله ، بعض هذه الإجابات كانت واضحة جدا ، وبعضها كانت الإجابة عنه تلميحا على أن يتبعها في زمن قادم حديث واضح ، لكن التلميح كان كافيا لكل متابع ومدرك لمعاني الكلمات والإشارات .

من صنع اتفاق الدوحة ؟ الجواب جاء واضحا من نصر الله : صانع هذا الاتفاق هو العمل الحاسم الذي شهدته بيروت ، والهزيمة الماحقة التي مني بها مشروع الفتنة الذي بدأ أولى خطواته في القرارين المشئومين اللذين صدرا عن مجلس الوزراء اللبناني غير الشرعي والذي أراد أن يضرب مركزا رئيسيا من مراكز قوة المقاومة ، وأراد أيضا أن يضع الجيش اللبناني في مواجهة المقاومة حينما طلب منه أن ينفذ هذين القرارين ،

الحسم السريع الذي رافقه موقف واضح وحاسم من قيادة الجيش امتنعت فيه عن تنفيذ قرار تلك الحكومة في التدخل لصالحها .

خيوط تلك الفتنة كانت موصولة إقليميا ودوليا ، كان الإعداد لها يبتغي أن يضع المقاومة في مواجهة الشرعية اللبنانية المزعومة ،وفي مواجهة الجيش اللبناني ، فيسمح بذلك بتدخل دولي ، وكذلك بتغيير قواعد الاشتباك الخاصة بقوة اليونيفيل ، ويكون دور مجلس الأمن هو تشريع هذا التدخل ، خصوصا وأن الحكومة اللبنانية كانت قد أتبعت إصدار القرارين برسالة الى مجلس الأمن تخبره فيها بموقفها .

وخيوط الفتنة غزلت وفق الاستراتيجية الأمريكية أي استراتيجية التقسيم الطائفي والنعرات الطائفية ، لذلك شاهدنا على الفور ، ومن الساعات الأولى لمعركة بيروت هستريا طائفية قادها ونفذها عبر أجهزة الإعلام والفضائيات مجموعة ممن يعتبرون أنفسهم من علماء المسلمين ، تستثير كل صخب التاريخ ، وكل غثه قبل ثمينه وتنادي بالثأر الطائفي ، وكان هؤلاء على الدوام ممن نسوا فلسطين ، والاحتلال الإسرائيلي ، الوجود الأمريكي في الوطن العربي ، وكل ما له صلة بالتحرير والمقاومة .

علماء الفتنة هؤلاء كانوا جزءا من مخطط الفتنة ، وكان لهم دورهم الكبير ، لكن سرعة الحسم التي قضت على أدوات الفتنة العسكرية كشفت هؤلاء وجعلتهم دون غطاء فعادوا مكرهين الى جحورهم . والى جانب هؤلاء ظهر أولئك الذين تحدثوا باسم ما دعي "بمكتب بيروت لإعلان دمشق" فكان بيانهم الذي أذاعته وروجت له أجهزة إعلام الفتنة يحمل الروح الطائفية نفسها ، ويستثير عوامل التفتيت نفسها ، ويستقوى بقوى الاستكبار والطغيان نفسها .

ولأن حسم المقاومة هو ما صنع اتفاق الدوحة فإن استمرارية هذا الاتفاق ، وفرص تطبيقه كاملا يستند بشكل رئيس على تنبه المقاومة وعلى رعايتها لكل العوامل التي من شأنها أن تسمح بتطبيق الاتفاق الى مداه ،وكلما خطى لبنان خطوة إضافية في تطبيق هذا الاتفاق كلما ولد قوى إضافية قادرة على حمايته وصيانته .

إن انتخاب العماد ميشيل سليمان رئيسا للجمهورية كان واحد من بنود الاتفاق ، وهو إنجاز من شأنه أن يدعم مسيرة تطبيق الاتفاق ويعزز من حجم القوى الحقيقية الملتفة حوله ، وكذلك الأمر مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ، ولقد كان من علائم الوفاء ومن توكيد مصداقية حزب الله بعد سعيه للسلطة وكذلك من خطوات تحصين الاتفاق إعلان نصر الله أن الحكومة الجديدة ستضم أطرافا من المعارضة من غير القوى الرئيسة الثلاثة ، وأن هذه الأطراف سيكون نصيبها مما هو مخصص لحزب الله ،

والمشوار في هذا السبيل طويل ، فقوى الفتنة لا تستسلم بسهولة ، لقد راعهم سرعة الحسم ، وقوة الحسم ، فأفقدهم القدرة على الحركة ، لكنهم اكتشفوا بسرعة أن ما خسروه في لبنان كان كبيرا ، وأن المثل الذي أعطوه في لبنان لحلفائهم في كل مكان كان بالغ السوء ، شديد الرداءة ، لذلك أسرعوا للنهوض مجددا ، لعلهم يستطيعون صنع شيء,

ولعل إدراك حزب الله لهذه الحقيقة هو ما دفع نصر الله الى توجيه رسالتين مختلفتين في المضمون وفي التوجه الى الأكثرية وحلفائهم في الساحة الإقليمية والدولية :

رسالة حاسمة واضحة:

تقول للجميع نحن حاضرون لحماية لبنان ، وأنفسنا ، ولمواجهة كل عدوان ، ونملك من المعلومات والحقائق ما سيؤدي إعلانها الى نزع الأقنعة عن الكثير ، ومن هذه الزاوية جاء حديثه عن توجهات وخطط جورج بوش للبنان، وللصيف الساخن الذي وعدت به غونداليزا رايس ، ومن الزاوية نفسها جاء حديثه عن عروبة لبنان، وعن حقيقة التزام حزب الله بمفهوم ولاية الفقيه ،

ولعل البعض تساءل عن الدافع لمثل هذا الحديث في هذا الوقت ، لكن ما قاله الأمين العام لحزب الله كشف بأن مركز القرار في المملكة العربية السعودية كان قد اتخذ من هذا الالتزام مدخلا للطعن بعروبة الحزب ، ومصدر شك في انتمائه لهذه الأمة ، لذلك أقدم مجلس الوزراء السعودي المصغر على إطلاق توصية بضرورة العمل على إنجاز تعديل في الدستور اللبناني يحفظ عروبة لبنان، أي أن المجلس هذا يقول إن حزب الله بالقوة التي ظهر بها ، وبالانتصار الذي حققه بات يهدد عروبة لبنان،

وهذا في الحقيقة شكل جديد من أشكال الفتنة، ومظهر جديد من مظاهر التلاعب بشخصية الأمة وثوابتها،واستغلال هذه الثوابت في صراعاتها وخدمة للأهداف الأمريكية والخطط الأمريكية ، تماما كما سبق أن فعلت القيادة السعودية مع قوة الفكرة الإسلامية وقدسيتها حينما وضعتها في خدمة وأهداف الإدارة الأمريكية، مرة في أفغانستان زمن حرب المجاهدين ، ومرة أخرى فيما يدعى بالحرب على الإرهاب في زمن بوش الراهن ،

إنهم لم يكتفوا بإثارة الضغائن الطائفية بين السنة والشيعة ، وإنما تحولوا ليجعلوها فتنة عرقية بين عرب وغير عرب وتريد أن توسم حزب الله بأنه غير عربي بسبب مذهبه السياسي الذي يتبع نظرية ولاية الفقيه "وهي نظرية فقهية صرفة ، أعاد الإمام الخميني صياغتها ، وكانت السبيل لتفعيل دور علماء الدين في مواجهة نظام الشاه وفي تحقيق الانتصار وفي جعل الولي الفقيه هو المرجع في النظام السياسي الإيراني".

ولن يغيب على أحد أن حزب الله وقائده ثبت بالدم عروبة لبنان ، حينما حققوا هزيمة العدو ، وأن حزب الله وقائده رفعوا مجد الأمة ، ومجد دينها وعروبتها ، وتاريخها ، حينما أجبروا العدو على الخروج الصاغر دون أي اتفاقات ، ودون أي مفاوضات،وفي وقت كانت القوات الأمريكية تدنس أرض الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، والاقتراح السعودي لتعديلات دستورية في لبنان لتوكيد هذه العروبة،

وإذا كان حزب الله وقائده قد ثبت عروبته وإسلامه بالدم ، والشهادة ،مثلما ثبيها بالفكر والموقف فإن أمام هذا التلاعب بثوابت الأمة أعلن وقوفه الى جانب الدعوة السعودية وهو هنا يلقي الكرة في حضن القيادات اللبنانية التي تجد في الرياض مصدر لقراراتها ولمواقفها لتسعى هذه لتعديل دستوري يؤكد عروبة لبنان ويعززها وسيرون أن حزب الله معهم دون قيد أو شرط .

وهنا أيضا شدد الأمين العام لحزب الله على مطلب أن يستعمل سلاح المقاومة في حسم الخلافات الداخلية ما دامت هذه خلافات رأي ورؤية ، وهو موقف قديم وثابت لدى المقاومة ، وأوضح في الوقت نفسه أن المطلوب أيضا أن لا يستعمل سلاح الدولة في مواجهة المقاومة ، كمثل ما حاولت حكومة الفتنة أن تفعل حينما طلبت بعد قراريها المشئومين ، وإثناء الحسم ، أن يتدخل الجيش لصالحها ،

ورسالة أخرى الى الصادقين في الأغلبية :

تقول لهم تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ، أنتم الذين أحببتم الراحل رفيق الحريري ، واعتبرتموه وجها من أبرز الوجوه الوطنية في لبنان ـ ونحن في المقاومة نعتبره كذلك ـ تعالوا ننهج نهجه، ونسير على طريقه ، فقد اعتمد الراحل المزاوجة بين البناء الداخلي وبين دعم المقاومة، بين إرادة العمل والحياة للبنان، وبين ضرورة حماية هذه الإرادة من كل عدوان، بتحرير الأرض، وصيانة الوطن من كل عدوان ، تعالوا نستدرك ما فات ، هذا اتفاق الدوحة دليل على أن المقاومة بكل ما تملك ـ وعلى خلاف ما كان يشاع بينكم ـ لم تعمل على تحصيل أي مكاسب سياسية مبنية على ذلك الحسم العسكري، وأن المقاومة لم تغير أي استهداف لها، فقد كانت قد حددت ثلاثة مطالب رئيسة منذ بدء هذه الأزمة قبل عامين وهي المطالب التي تحققت في اتفاق الدوحة :

حكومة وحدة وطنية بثلثها الضامن، وقانون انتخابات متفق عليه، ورئيس توافقي.

كذلك نحن اليوم أكثر تمسكا باتفاق الطائف ، وليس كما كان يشاع بينكم بأننا نريد تغيير قواعد اللعبة في لبنان وننقلب على الطائف، تعالوا نرمي خلفنا كل عوامل الفتنة الطائفية ومنطقها لنبني لبنان الجديد الذي لا ينتصر فيه غير الوطن، ولا يعز فيه غير أبنائه، ولا يتمكن منه أي عدو، وطن لا ذله فيه، تنتهي فيه القاعدة البائسة أن قوة لبنان في ضعفه ، وتقوم فيه قاعدة العزة الحقيقة أن قوة لبنان في وحدة أبنائه، وفي استراتيجية دفاعية مجمع عليها تصون هذه الوحدة، وتحمي هذا الوطن، وتسترجع ما سلب منه، وتعيده فاعلا في نطاق منظومته العربية، وأوضحت هذه الرسالة أن من ضرورات كلمة السواء هذه نبذ رموز الفتنة، وإخراجهم من بين الصفوف، والتطهر من أولئك الذين ارتبطوا حتى النخاع بالقوى الخارجية ارتباط التابع بلا إرادة، والذي أدى وجودهم الى إعاقة ولادة اتفاق مثل اتفاق الطائف قبل هذا التاريخ بزمان، مما كان سيجنب لبنان أشهر طوال من العناء ويوفر على هذا الوطن الدماء التي أهرقت طوال هذه الفترة .

اتفاق الدوحة : الرابح والخاسر

وقدم خطاب نصر الله نظرة الى اتفاق الدوحة ، نظرة تحمل تقييما لهذا الاتفاق الذي ولد بعد عسر، وبعد أن ظهر أن لا سبيل آخر غير أن يولد، وبعد أن يئس الباحثون عن قوى إضافة تغير الواقع الذي صنعته ساعات الحسم .

وحين قال نصر الله إن الذي انتصر هو لبنان، هو المشروع الوطني في لبنان، هو مشروع العزة والكرامة والتقدم والعدالة، لم يكن في ذلك يريد أن يدغدغ عواطف أحد، ولا أن يراعي شعور أحد، إنه لم يكن يرسل رسالة تآلف للمخلصين من خصومه، ولا للمتشوقين من أنصاره، وإنما كان يريد أن يعبر عن الحقيقة خالصة ونقية .

هناك فارق واضح بين الصانع الرئيس لاتفاق الدوحة، وبين الذي خرج منتصرا في ذلك الاتفاق، قوى المقاومة هي الصانع الرئيس لاتفاق الدوحة، لكن الذي انتصر في هذا الاتفاق هو الوطن، وهو مشروع الوطن، وهو مستقبل الوطن.

هنا لا يعود الأمر فيمن صنع، وإنما الى من يهب هذا الذي صنع، تماما كما كان انتصار التحرير، حينما هزم المحتل واندحر من جنوب لبنان، لقد كانت المقاومة هي الصانع الرئيس لذلك الانتصار لكن النصر كان للوطن كله، لحاضرة ومستقبله، لكل فئاته ، وتكويناته، لكل من يعتقد أن لبنان وطنا له يستحق أن يكون محررا، ويستحق أن يعيش بأمان، ويستحق أن يتطلع الى غد آمن، وكان هذا هو الأصل في مشروع المقاومة .

الانتصار في اتفاق الدوحة كان لأسرى لبنان في سجون الاحتلال الذين سيعودون أحرارا الى وطنهم ، والانتصار كان لمزارع شبعا والأراضي اللبنانية المحتلة التي طال وجودها في الأسر ، الانتصار في لبنان كان للشعب الفلسطيني الذي وأد بهذا الاتفاق مؤامرات التوطين والتهجير ، وتأكد أن سبيله سيكون من لبنان الى فلسطين وليس الى مكان آخر .

هذا التوصيف بقدر ما يحمل من حقيقة فإنه يحمل من تواضع، ومن دعوة صريحة لصناع هذا الاتفاق ليتواضعوا، دعوة تعيدهم الى أصل القضية وجوهرها، فما يقومون به، وما يمثلونه من مشروع، ليس لأجلهم فقط، وليس خاصا بهم فقط، وإن كانوا هم الذين تحملوا مسؤوليته ودفعوا من دمائهم الثمن، إنه مشروع للوطن كله، ولو لم يكن كذلك ما كان ممكنا أن ينجح .

وأمام من ربح في اتفاق الدوحة هناك الخاسرون ، المهزومون ، وهم كل دعاة الفتنة في الداخل اللبناني ، الذين اشرأبت أعناقهم في أيام الأزمة يدعون داحس والغبراء ، ويا ثارات الجاهلية ، يريدون أن يحرقوا الأخضر واليابس من أجل تارة بدعوى الاسلام المفترى عليه ، وتارة أخرى بدعوى العروبة المعتدى عليها ، ولم يكن الاسلام ولا العروبة يوما هما حقيقيا لهم ،

كذلك هم كل قوى الغرب الاستعماري ، والكيان الصهيوني اللذين لم يجدوا سبيلا لولادة شرق أوسطهم الجديد إلا من خلال الفتنة الطائفية ، ومن خلال الاقتتال الداخلي ، ومن خلال وئد كل أشكال وفرص المقاومة ، لقد عبرت الإدارة الأمريكية بوضوح عن هذا التطلع ، وقد كان واضحا على وجوه وزراء خارجية هذه الدول وممثليها الذين حضروا جلسة انتخاب الرئيس سليمان أن خيبة الأمل تتلبسهم ، وفشلوا في أن يبعثوا برسالة تضمين لمن ارتبط بهم في الداخل اللبناني ،

نعم لقد هزم هؤلاء جميعا ، وقال نصر الله إن لبنان لن يكون في المنطقة كما كانت هونغ كونغ بلا هوية ولا وجه ولا انتماء ، كما أراد لها هؤلاء ، وإنما كان وسيكون الدولة والمجتمع والقوى التي أعطت وما زالت تعطي نموذج المقاومة، وفلسفة المقاومة، واستراتيجية المقاومة.

عود على بدء

هكذا يكون الرجال ، وهكذا تكون القيادة : قوة من غير صلف ، وعزيمة من غير كبر ، وانتصار من غير غرور ، ووضوح في الغايات وفي الوسائل ، وسبيل لا تشوبه شائبة ، ولا يدفع عنه ظرف طارئ ، ولا معركة جانبية .

هكذا يكون الرجال، وهكذا يبقى الخيار، إما مع المقاومة وخطها ومشروعها وقواها ، وإما مع صف الهزيمة وخطها وقواها، ليس هناك منطقة وسطى، وليس هناك إمكانية للمزاوجة بين هذا وذاك .

ليس الأمر هنا أن نغمض العين فلا نرى أخطاءنا، أخطاء المقاومين، وهفواتهم، أبدا، فهؤلاء بشر يخطئون ويصيبون وهم أحوج الى النقد والتصويب، ولعل في مسلك المقاومين خلال أيام الحسم العسكري ما يستدعي النقد والتقويم .

وليس الأمر هنا أن نقبل دون تمحيص وتدقيق ما تقدم عليه قوى المقاومة ـ في لحظات الشدة وفي لحظات الرخاء ـ من مواقف ، وما تتخذه من خطوات، ولعل في اتفاق الدوحة ما يستأهل النقد ويستدعي التصويب.

ليس الأمر هكذا، فالمقاومة هي الأحوج الى النقد والتصويب والتنبيه، لكن هذا كله يكون من موقع الانتساب الى نهج المقاومة ومشروعها، من موقع الحرص عليها وحمايتها، من موقع الصدق معها وتحصينها.

القادم من الأيام لن يكون سهلا ، والمهزومون لن يسلموا بسهولة ولو أنهم طأطأوا الآن رؤوسهم ، وكما شاهدناهم من سابق فإن أسلحتهم في الفتنة ، والتخريب كثيرة لا يردعها رادع ، ولا تقيم وزنا لأية قيمة ، أو تقف عند أي حد ، وهي على استعداد وصولا الى أهدافها أو بعض أهدافها أن تستثير كل شيء أو أي شيء.

وإذا كانت المقاومة تبدوا متنبهة ، وقد أثبتت ـ بعد خطيئة الحلف الرباعي ـ أنها لا تلدغ من جحر واحد مرتين ، فإن المطلوب من كل من ينتمي الى هذه المقاومة أن يكون واعيا في التحديد الحاسم لمعسكر انتمائه ، وأن يكون واعيا للمزالق التي يعدها المعسكر المعادي ، وأن يدقق في موقع قدميه فلا يرى نفسه في لحظة غفلة وقد استقرت حيث يكون الأعداء .

28 / 5 / 2008

ليست هناك تعليقات: