2008/05/10

وحدة القوى العربية التقدمية: لماذا وكيف ؟


الدكتور عصمت سيف الدولة

وحدة القوى العربية التقدمية ؟

" دروس من الهزيمة "

ان أول دروس الهزيمة

اننا في أشد حاجة إلى الصدق

لماذا وحدة القوى العربية التقدمية

-1-

من أجل النصر

ا- أن يوم 5 يونيو (حزيران) 1967- يوم الهزيمة العربية - يمكن أن يكون بداية لتاريخ انتصار أمتنا لو أن نيران " النابالم " التي أحرقت أجساد شهدائنا الأبرار قد أحرقت أيضاً كثيراً من الأفكار والأساليب التي سيطرت على حياتنا قبل 5 يونيو . ذلك لأن الأحداث التاريخية قد تكون انتصاراً ، وقد تكون هزيمة ، وقد يختلف الناس في تقييمها وتحديد المسؤولية عنها ، ولكنها - في كل الحالات - تدخل بمجرد وقوعها في تركيب تاريخ الشعوب التي تمر بها ، وتصبح بذلك عناصر من خبرتها لايمكن الغائها . من هنا لا تتوقف الآثار الايجابية أو السلبية للحدث التاريخي على ما أحدثه في حينه من اضطراب في مجرى تيار الحياة الذي سبقه بل على موقف الذين عانوا ذلك الاضطراب من المستقبل الذي يتلوه . لأنه سواء أعجبنا ما وقع أم لم يعجبنا يظل المستقبل هو الساحة الوحيدة المفتوحة لارادتنا الفعّالة. وبقدر ما نستفيد من تجربة الماضي نستطيع أن نحقق في المستقبل . وهنا الدور الإيجابي للأحداث التاريخية سواء كانت نصرآ أم هزيمة .

ان هذا يكشف الطبيعة العقيمة للمواقف السلبية والانهزامية من الأحداث التاريخية ، ويجرد اجترار الماضي والعويل عليه من أية فائدة . وهو يحدد - في الوقت ذاته - نقطة انطلاق حتمية لأي موقف إيجابي بنّاء تتمثل في استيعاب التجربة هي عن طريق دراستها دراسة موضوعية مجردة من الانفعال بقصد استخلاص عبرتها للاهتداء بها في عملية تجاوز الماضي إلى المستقبل.

2- ولا شك في أن حدث يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 كان ولا يزال وسيبقى إلى فترة طويلة من أغنى التجارب التي مر بها التاريخ العربي المعاصر، وبالتالي من أخصب مصادر المعرفة للذين يتصدون لبناء المستقبل على الأرض العربية . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى قد لا يوجد شك أيضأ في أن كثيراً من الوقائع التي شكلت الظرف التاريخي ليوم 5 يونيو (حزيران) كانت ولا تزال وستبقى إلى وقت غير قصير من الأسرار المحجوبة عن علم الجماهير العربية، لأن أصحاب تلك الوقائع ، الذين صاغوها ظرفاً تاريخياً أدى إلى الهزيمة جد حريصين على ألا تعرف الجماهير العربية كل الحقائق ، اذ انهم يعلمون تماماً أننا بقدر ما نعرف من أسباب الهزيمة بقدر ما نستطيع أن نتجاوزها إلى النصر، ونحول دون تكرارها في تاريخنا المقبل . غير ان هذا لايعني أن نتوقف عن محاولة الدراسة والمعرفة والاستفادة إلى أن تتكشف لنا كل الأسرار، فقد نفاجأ بأنه لم تكن وراء هزيمة 5 يونيو (1967) أية أسرار على الإطلاق ، وانها كانت محصلة طبيعية لمعطيات موضوعية سبقتها، كنا نعرفها جميعاً ولكننا فشلنا في ادراك دلالتها في الوقت المناسب ، أي أن نكتشف أخطر الأسرار في التاريخ العربي الحديث هو السر في اننا لا نتعلم .

على أي حال فأياً ما كانت الأسرار الكامنة وراء هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 فان هذا لا يحول دون حقنا ، ومسؤوليتنا ، في السؤال : لماذا وقعت بنا الهزيمة ؟

3 ان الإجابة التي تتبادر إلى الذهن، والتي لم يكف أحد عن ترديدها منذ ذلك اليوم المشؤوم، هي أن أعداء أمتنا من القوى الصهيونية والاستعمارية قد حشدوا ضدنا قوة عدوان متفوقة. وهي إجابة صحيحة تبرر كل ما نقوم به، وما يجب أن نقوم به للتشهير بالصهيونية والاستعمار، ولكشف الطبيعة العنصرية العدوانية لاسرائيل ، ولفضح مخططات الاستعمار الامريكي في الشرق العربي، لنكسب بذلك الرأي العام العالمي التقدمي لمصلحة قضيتنا العادلة . ومع هذا فان تلك الإجابة الصحيحة تظل إجابة غير وافية . ذلك لأن أعداءنا هم أعداؤنا . ومن المثالية العقيمة أن نتوقع من أعدائنا أن يتخلوا عن معركتهم ضدنا لمجرد أنها معركة غير عادلة أو غير أخلاقية. وأكثر من هذا مثالية وعقماً أن نتوقع منهم أن يصبروا علينا إلى أن نحقق غاياتنا القومية في تحرير الأرض المحتلة أو في الوحدة أو في الاشتراكية . ان هذه الغايات بالذات هي التي يريدون هزيمتها. والمفروض اننا عندما اخترنا غايات محددة كنا نقدر أن ثمة قوى مضادة ستبذل كل ماتستطيع من جهد لاحباط غاياتنا ، بكل اسلوب ، ولو بالقوة المسلحة . نريد أن نقول ان النشاط الاستعماري الامريكي ووجوده المسلح في منطقة الشرق العربي وعلى بعض الأرض العربية ذاتها ، والحركة الصهيونية العنصرية ، والوجود الاسرائيلي على ارض فلسطين المغتصبة، والعلاقة المتبادلة بين هذا جميعاً على وجه يحدده كمعسكر معاد متربص ، بنا، كل هذه كانت موجودة قبل 5 يونيو (حزيران) 1967 ، وكنا نعلم وجودها ، ولم تكف عن استغلال أية فرصة لتذكيرنا بهذا الوجود وأغراضه العدوانية . لهذا فان الاعتذار عن الهزيمة باسنادها إلى قوة أعدائنا، وغدرهم، وشراستهم لا يفيدنا شيئاً كثيراً . أولى من هذا أن ننتبه. ونركز على معرفة لماذا تمكّن منا أعداؤنا ؟ ما هي نقاط الضعف في أفكارنا وفي اسلوبنا ؟..ما هي الثغرات في موقفنا التي مكنت قوى كنا نعرف دائمأ انها متربصة بنا من أن توقع بنا الهزيمة ؟.

ان الاحاطة الكاملة بالإجابات الصحيحة على هذه الأسئلة تتجاوز غاية هذا الحديث القصير. ولكنها- لكي تكون إجابات صحيحة- يجب أن تشمل كل الوقائع الفكرية والسياسية والاجتماعية التي سبقت 5 يونيو (حزيران) 1967 وأدت اليه ، ثم المنهج أو الاسلوب الذي اتبعناه خلال مرحلة تاريخية انتهت بالهزيمة . والاجتهاد في كل هذا مفيد . وهو بعد- مهمة تاريخية . الا أن دراسة المنهج والاسلوب أجدى علينا من دراسة الوقائع والأحداث . ذلك لأنه من المستحيل علينا أن نعيد الماضي لنحول دون وقوع ما وقع فعلاً ، ولكن في امكاننا دائمأ أن نصحح منهجنا في مواجهة ومعالجة الوقائع والأحداث المقبلة لنسترد أرضنا المغتصبة ثم لنحول دون أن تتكرر في تاريخ أمتنا تلك النكسة المرة .

لهذا اخترنا أن نتحدث عن "وحدة القوى العربية التقدمية " ، لأنه حديث متصل بمنهج واسلوب النضال العربي. والنضال العربي عندنا لا يعني النشاط السياسي الاقليمي لأية دولة أو منظمة عربية على حدة .

4- غير اننا إذا كنا قد استطعنا أن نختار موضوع الحديث ، فاننا غير قادرين على أن نعزله عن الظروف التي يدور فيها . فنحن نتحدث من مواقع الهزيمة حديثاً تحركه الرغبة في النصر . فلسنا إذن مستطيعين أن ندير الحديث حول " وحدة القوى العربية التقدمية ، إلا من حيث علاقة هذه " الوحدة " بالنصر والهزيمة.

فوق طاقتنا الآن، وبحكم ولائنا لأمة هزمت هزيمة لاتستحقها ، أن نهرب من مواجهة محنتنا إلى حوار اكاديمي بعيد عن المعركة . فقد كان في مقدورنا دائمأ أن نحاور القوى اللاقومية مبتدئين من أية نقطة يختارونها، وعلى أي مستوى يريدون ، وأن ننتهي دائماً إلى ضرورة التحام الشباب العربي التقدمي في وحدة تنظيمية لمواجهة مصيره الواحد. كان في مقدورنا دائماً أن نقدم إجابات فكرية أو تطبيقية ، تاريخية أو مصيرية على السؤال : لماذا وكيف وحدة القوى العربية التقدمية. ولقد فعلنا هذا في كتب منشورة كما فعل كثير غيرنا ثم ركنا معاً إلى أحلام الالتقاء مع الذين لا يريدون أن يقتنعوا أو الذين لا يقتنعون . وكان في مقدور القوى اللاقومية - أيضأ- أن تنكر، وتتنكر، وتغالط ، وتشك لأنها كانت تدير الحوار سفسطة في ظل أوهام الأمن الاقليمي . ولقد دفعنا جميعاً ثمن أحلامنا وأوهامنا . دفعت القوى القومية ثمن الصبر على حوار مغلوط لا ينتهي حول الأمة كيف نشأت ، والقومية كيف بدأت ، والوحدة كيف تكون.. الخ ، ودفعت القوى اللاقومية ثمن شرودها من المواقع القومية الآمنة إلى متاهات الضياع الاممي أو الاقليمي . وتولى أعداء أمتنا قطع الحوار وتبديد الاوهام عندما قدموا لنا من هزيمة أمتنا يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 اجابة حاسمة عن علاقة النصر أو الهزيمة بوحدة القوى العربية التقدمية وجودأ وعدمأ. وهي إجابة أكدت - بعيدآ عن أية مغالطة أو ادعاء - ان تلك القوى المسماة " عربية تقدمية " والتي أضاعت ما أضاعت من جهد ووقت تداري فشلها وراء صخب الحديث عن " وحدتها " هي المسؤولة الاولى عن الهزيمة .

كيف؟!

لنعرف أولاً لماذا وقعت بنا الهزيمة ؟

-2-

الاسلوب العلمي

5- من بين كل الاسباب التي يمكن أن تقال تفسيراً لهزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 نعتقد أن السبب الاساسي هو أن السياسة العربية لم تكن قط سياسة علمية ، لم تنتهج قط الاسلوب العلمي، لا في التفكير ولا في الحركة فعجزت عن النصر واستحقت الهزيمة .

والاسلوب العلمي ليس شيئأ غير معروف أو غـير قابل للمعرفة ، فإن كلاً منا ينتهج- بقدر أو بآخر- هذا الاسلوب في شؤونه الخاصة . أما انتهاجه في مجالات الانتاج والادارة فقد أصبح أمرأ روتينيأ. وذلك لاننا لا نعني بالاسلوب العلمي شيئأ أكثرمن " التخطيط " وهو شيء نعرفه تماماً ونطبقه بنجاح مطرد في المجالين الإقتصادي والاجتماعي .

والتخطيط كأسلوب علمي يقوم على قاعدتين ، احداهما : عدم توقع تحقق غايتنا بدون تدخل إيجابي من ناحيتنا لتحقيق هذه الغايات . وعلى هذا الوجه تخرج السلبية والتواكلية من عداد الاساليب العلمية. وثانيهما: ضرورة سبق الاحداث قبل أن تقع والتحكم في وقوعها طبقاً لمخططات شاملة ومرحلية تحكم حركتنا في مواجهة الظروف التي نعيشها بحيث لا تقع أحداث أو تتحقق نتائج غير داخلة في حسابنا أو غير متفقة مع ما نريد. وعلى هذا الوجه تخرج التجريبية والمغامرة من عداد الأساليب العلمية .

6- وطبيعي أنه مع التسليم بالتخطيط كاسلوب علمي يحقق النجاح في كل المجالات ، تختلف طبيعة الخطط وعناصرها وكيفية تنفيذها تبعاً لتغير المجالات التي تطبق فيها . ولا يحتاج الأمر إلى اجتهاد كبير فإن خبرة الشعوب في كل مجال تكوّن رصيداً انسانياً أكثر من كافٍ لمن يريد أن يستفيد من خبرته أوخبرة غيره في " كيفية " وضع الخطط ومتابعتها وتنفيذها .

لم يعد أحد يجهل- مثلاً- ان السياسة قد أصبحت علماً ذا قواعد وقوانين يجب احترامها حتى ينجح العمل السياسي. كما لايجهل الذين اهتموا بمعرفة شيء من هذا العلم العظيم بأن الاسلوب العلمي في العمل السياسي يتضمن ثلاثة عناصر لازمة و متكاملة : النظرية- الاستراتيجية- التكتيك .

ولسنا نريد أن نأخذ النظرية هنا بمفهومها الفلسفي أو الأكاديمي، ولكنا نعني بها مجموع الحلول الفكرية للمشكلات التي تطرحها الظروف والتي تتضمن الغايات البعيدة للعمل السياسي . وطبيعي ان وجود نظرية ينطلق منها العمل السياسي على هذا الوجه يقتضي معرفة كاملة وشاملة ودقيقة بالظروف المحلية والقومية والدولية ، وتحليلاًعلمياً لكل هذه الظروف يكشف عن اتجاهها التاريخي، وينتهي بصياغة مجموعة من " المبادىء " التي تتفق مع طبيعة ظروفنا ، واتجاهها العام . ان هذا هو ما نعبر عنه بضرورة أن تكون " نظريتنا " منبثقة من واقعنا ونعني به أن تكون حلاً علمياً لمشكلاتنا الفعلية. ومع ان كلمة " نظرية " هي التعبير الذي يستعمله عامة المثقفين ويثيرون به قدراً غير قليل من الغموض، فانها مساوية في دلالتها لما تعبر عنه العامة من غير المثقفين عندما تتحدث عن " المبادىء " وتكرر ضرورة أن تكون لنا مبادىء، وتسخر من بعض الذين، يتصدون للعمل السياسي لان ليس لهم " مبدأ " . ان هذا يعني تماماً ضرورة أن تكوت لنا " نظرية " وان العمل السياسي- الذي لا يستند إلى نظرية يستحق السخرية . وكل هذا صحيح لان العمل السياسي الذي لا ينطلق من نظرية معروفة لا يعرف إلى أين ينطلق .

من الواقع الذي يدور فيه العمل السياسي إلى الغايات التي تحددها النظرية فترة زمنية تطول أو تقصر. ولكنها في كل الحالات يجب أن تكون مغطاة بخطة سياسية تصل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. انها " الاستراتيجية " . أي الخط الثابت الذي يربط بين العمل السياسي والغايات التي يستهدفها مقسماً على مراحل زمنية تتفاوت طولاً أو قصراً طبقاً لظروف كل مرحلة وطبيعة الانجازات المحددة فيها. انها تقابل التخطيط الشامل بعيد المدى في المجال الاقتصادي . وكما أن الالتزام بنظرية بدون استراتيجية لا يعدو أن يكون ثقافة فكرية مجردة فإن الالتزام باستراتيجية بدون نظرية لايعدو أن يكون التزاماً شكلياً غير ذي مضمون لا يمكن متابعته ولا يتحرج أحد في الخروج عليه . ومن هنا فإن التخطيط العلمي في المجال السياسي يستلزم النظرية والاستراتيجية كلتيهما .

على أساس النظرية، وفي داخل إطار الاستراتيجية ، يتحول العمل السياسي إلى ما لا حصر له من العمليات المتنوعة في طبيعتها ، المتفرقة في مواقع التنفيذ ، المقسمة على القوى العاملة في الحقل السياسي. أي تتحول الاستراتيجية إلى مهمات تكتيكية . وعلى هذا المستوى (مستوى التكتيك) يتعرض العمل السياسي كله (نظرية واستراتيجية وحركة) لاختبار الممارسة إذ هي المحك الذي لا يخطىء في كشف فاعلية النشاط السياسي. ولكنه يتعرض أيضأ لمخاطر الممارسة. ذلك لان ثبات الخط الاستراتيجي من ناحية ، والتغيرات التي تطرأ على ظروف المعارك من ناحية ثانية ، ونشاط القوى المضادة من ناحية ثالثة ، يستلزم أن يتوافر للعمل السياسي على مستوى الممارسة قدر غيرقليل من المرونة والمقدرة على المناورة. ولما كانت المواجهة الفعلية للقوى المضادة تتم على هذا المستوى ، كما تتحقق عليه المكاسب أو الخسائر، الانتصارات أو الهزائم، فإن الخطر يكمن فيه أيضاً . ومصدر الخطر ان تفلت الممارسة السياسية على المستوى التكتيكي من الالتزام بالخط الاستراتيجي ، أي يترك العمل السياسي لاهواء ونزعات القائمين به بدون ارتباط بالخطة العامة. إن هذا يشبه - مع الفارق- أن تتلقى إدارة احدى مؤسسات الانتاج صورة من الخطة الاقتصادية ثم تضعها في أحد الادراج ، وتقبع في مكاتبها ، تاركة لكل عامل أن ينتج مايشاء بالمواصفات التي يريدها . وكما أنه مهما عظمت الجهود التي يبذلها العاملون، ومهما صدقت رغباتهم في إنجاح المشروع الاقتصادي الذي يعملون فيه ، فانهم سيفشلون نتيجة للاسلوب غير العلمي الذي يسود نشاطهم ، كذلك تفشل الجهود السياسية التكتيكية في تحقيق غاياتها مهما حسنت نوايا القائمين بها ، حتى لو كانوا أبطالاً ، لأنهم لا يلتزمون استراتيجية العمل السياسي.

7- النظرية - الاستراتيجية - التكتيك.

تلك إذن هي " عناصر " الاسلوب العلمي للعمل السياسي . غير انه واضح- مما قلناه- ان مجرد توافرها لا يكون اسلوباً علمياً إلا ان تتوافر العلاقة المتبادلة بينها أي أن يكون كل منها عنصراً مكملأ وفي خدمة العنصر الآخر. فالاستراتيجية تقوم على النظرية وفي خدمتها وهذا واضح . انما يكتمل الاسلوب العلمي في العمل السياسي عندما تنسق المواقف والتحركات السياسية في الممارسة الفعلية مع الاستراتيجية العامل للعمل السياسي ولا تنحرف أو تتعارض أو تضعف الحركة نحو الغايات التي تحددها النظرية . فكيف يتم هذا ؟

بوحدة التنظيم. إذ مع تحول الاستراتيجية إلى عدد لا حصر له من المهمات المتنوعة الطبيعية (نشاط ثقافي- نشاط دعائي- استقطاب جماهيري عمل ثوري.. الخ) تقوم بها أعداد كثيفة من الأشخاص متنوعي الكفاءات ومتفاوتي المقدرة ، بحيث يختص كل منهم بجزئية محدودة من العمل السياسي، يكون من الحتمي انتماؤهم جميماً إلى تنظيم واحد ذي قيادة واحدة قادرة على تفريغ المراحل الاستراتيجية في جداول عمل نوعية ، وتقسيم العمل على القائمين به كل حسب كفاءته ومقدرته ، ومتابعة جهودهم ، والتنسيق بينها على وجه يحفظها داخل إطار الخطة الاستراتيجية، وتنقية صفوفهم من المنحرفين قبل أن يتحول الانحراف إلى انقسام وتمزق ، ثم مراقبة المحصلة النهائية لمجموع العمل اليومي في المواقع التكتيكية بحيث تتفق مع التخطيط السياسي من حيث النوع ومن حيث التاريخ المحدد للانجاز.

8- نعم قد أطلنا بعض الشيء في هذا الحديث المجرد، عن الاسلوب العلمي في العمل السياسي وعذرنا أن هذه هي النقطة الأساسية التي سنقيم عليها ما يأتي من أحكام فأردناها أكثر ما تكون وضوحأ حتى نستطيع أن نتفق، فإن غاية أي حديث غير هازل أن يكون مقدمة لاتفاق . أما عن التجريد فلأننا نتحدث عن " قانون " العمل السياسي والقوانين كلها مجردة : وان كانت حصيلة مركزة للخبرات الحية.

ثم اننا فيما يبدو قد صغنا القانون والحديث عنه بحيث لا يكاد يصدق إلا بالنسبة إلى العمل السياسي الجماهيري (الهيئات - المنظمات الشعبية- الحركات السياسية- الأحزاب.. الخ). والواقع انه قانون العمل السياسي الجماهيري فعلاً ولكنه قانون أي عمل سياسي ولو قامت به الدول . كل ما في الأمر هو اختلاف الشكل والأسماء . فالتنظيم هو جهاز الدولة بكل وزاراته ومؤسساته وموظفيه، وقيادته هي الحكومة في الدولة . وهذا لا يغير شيئاً في ان نجاح أية دولة في سياستها (الخارجية أو الداخلية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية... الخ) متوقف أيضأ على أن تكون حمركة أجهزتها وموظفيها في أي مجال وموقع منضبطة باطار ثابت من التخطيط السياسي بعيد المدى (استراتيجية) وأن يكون ذلك التخطيط قائماً على أساس محدد ومعروف من المبادىء (نظرية) أي متوقف على مدى انتهاجها الاسلوب العلمي في سياستها تفكيرأ وتدبيرأ وحركة .

كل هذا بصرف النظر عما إذا كانت الخطط الاستراتيجية معلنة لغير الملتزمين بها أم لا . ذلك لأنه بينما تكون المبادىء معلنة في أغلب الأوقات، قد تلجأ بعض المنظمات الجماهيرية أو بعض الدول إلى حجب استراتيجية عملها عن القوى المضادة لتتيح أكبر قدر من الأمن للذين يتحركون على مستوى الممارسة التكتيكية. ومعنى هذا ان لا علاقة للاسلوب العلمي في السياسة بالديماغوجية السياسية " بل ان اطراد النجاح أو الفشل ، وامكن توقعهما " هو الذي يأتي كاشفاً، على وجه لا تجدي معه الاعتذارات عما إذا كان العمل السياسي الذي انتهى به علمياً أو غير علمي .

-3-

دروس من الهزيمة

9- طبقأ لهذا نجد اننا لسنا في حاجة إلى اجتهاد لنعرف ان اطراد نجاح أعدائنا منذ شراء قطع من الارض العربية اتفاقأ فرديأ حتى احتلال الأرض العربية عنوة يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 كان نتيجة لتخطيط سياسي علمي . ان هذا يكشف لنا حقائق نحن في أشد الحاجة إلى معرفتها لتكمل معرفتنا بطبيعة المعركة التي تشنها الصهيونية ضد أمتنا. فمثلا لقد أصبح معروفاً الآن مما نشر عن حرب يونيو ان الخطة العسكرية الاسرائيلية كانت معدة ولم يتوقف التدريب عليها منذ عشر سنوات . ان هذا يسقط أي ادعاء بأن تحرك قواتنا إلى الجبهة، أو سحب قوات الأمن الدولية، أو غلق خليج العقبة كانت " أسبابأ للعدوان الاسرائيلي، فان الخطة العسكرية التي توضع قبل عشر سنوات من تنفيذها لا بد أن تستند إلى أسباب سابقة عليها ، ولما كانت الخطط العسكرية- وان قسمت هي ذاتها إلى استراتيجية وتكتيك- تقع كلها في نطاق العمل التكتيكي بالنسبة إلى الاستراتيجية السياسية، فلا بد أن تكون خطة العدوان الاسرائيلي التي وضعت قبل عشر سنوات قد وضعت ضمن إطار، وفي خدمة، استراتيجية سياسية أقدم منها عمرأ وأكثر منها شمولاً . ثم لا بد من أن تكون الغايات التي صيغت الاستراتيجية الاسرائيلية لتحقيقها- على مراحل - أكبر كثيرآ من احتلال سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان . وإذا كانت اسرائيل لم تعلن خططها الاستراتيجية فان غاياتها ( أو المبادىء التي تحدد تلك الغايات) معلنة، فعلى جدار الكنيست منحوتة دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل كغاية لم تحددها حكومة إسرائيل بل حددتها الحركة الصهيونية التي كان قيام دولة إسرائيل ذاتها على جزء من فلسطين 1948 خطة مرحلية من استراتيجيتها، مهدت لعدوان 1956، ثم لعدوان 1967 الذي لن يكون آخر محاولات إسرائيل في تنفيذ مخططات الصهيونية . " النظرية " التي يستند اليها النشاط السياسي الصهيوني معروفة، فهي- اذن- موجودة . بوجودها توافر لهذا النشاط أول عناصر الاسلوب العلمي في التحرك السياسي. والاستراتيجية يكشف عن وجودها اتساق التحركات التكتيكية الصهيونية في جميع أنحاء العالم. فعلى مستوى النشاط الفردي أو الجماعي، الجماهيري أو الرسمي، الداخلي او الخارجي، الثقافي أو المالي... ينشط الصهاينة رجالاً ونساء على وجه بالغ التنوع ولكنه متفق دائمأ مع المخططات الصهيونية بعيدة الأمد . والعقوبات التي تفرضها الصهيونية على اليهود الذين يشذ نشاطهم عن هذا الاتفاق تكشف عن الالتزام - والالزام - الفكري والحركي للنشطين في اطاره. وكل هذا يضعنا أمام تنظيم صهيوني عالمي أكبر من اسرائيل ذاتها غايته - أن يقيم على الأرض العربية دولة عنصرية من الفرات إلى النيل بما تعنيه العنصرية من إبادة للشعب العربي أو ارغام له على الهجرة . غير أن أهم خصائصه أنه ينتهج الاسلوب العلمي- الذي عرفناه- في تحركه السياسي على الطريق إلى غايته. ان هذا قمين بأن يستنفر الذين لم يشردوا من الارض المحتلة، اللائذين بحدود دولهم الاقليمية ، الحالمين بسلام في الوطن العربي مع وجود إسرائيل ، المساومين على وجودهم ، الخائفين من مرارة الصراع لان كل هذا لن يجديهم شيئاً ، فان كانوا اليوم آمنين، فلأن الوقت المحدد لتشريدهم أو أبادتهم لم يأت بعد طبقاً للخطط الصهيونية .

11- إذا كانت الصهيونية تنظيمأ سياسيأ تدخل دولة إسرائيل ذاتها ضمن أجهزته فان الولايات المتحدة الامريكية منظمة سياسية في دولة غاياتها الاستعمارية غير خافية . والطابع الامبريالي للسياسة الامريكية يكشف عن عالمية الاستراتيجية الامريكية . اننا في غير حاجه إلى التدليل على هذا فأمامنا تثير أمريكا الاضطرابات والانقلابات والحروب في أطراف متفرقة من الأرض، وتنتشر قواتها المسلحة وممثلوها الرسميون، وعملاؤها وجواسيسها في كل مكان ، ويتحركون جميعأ تحت قيادة واحدة في البيت الابيض وتصب أعمالهم جميعاً مهما تنوعت داخل خطة سياسية واحدة . ولكنا قد نكون في حاجة إلى معرفة العلاقة بين النشاط الصهيوني والنشاط الامريكي في الوطن العربي . انه لمن السذاجة تصور أن أياً من القوتين المعاديتين لنا هـي في خدمة الاخرى، أي انها تتحرك طبقاً لغير استراتيجيتها الخاصة . ان هذا يعني الغاء واحدة منهما كقوة سياسية. ولما كانت الولايات المتحدة الامريكية قوة سياسية دولية ظاهرة فان هذا التصور الساذج يجنح إلى وضع الصهيونية موضع الاداة التابعة والخاضعة والمنفذة لسياسة الولايات المتحدة الامريكية. ويقود هذا الجنوح إلى الوقوع في خطأين مدمرين ، أولهما: التطلع إلى الولايات المتحدة الامريكية لصد العدوان الصهيوني عن الأمة العربية. وهو خطأ وقع فيه العرب يوماً عندما ظنوا ان الصهيونية أداة تابعة وخاضعة لبريطانيا فتطلعوا اليها لتصد عنهم العدوان ودفعوا ثمنأ فادحأ لذلك الخطأ . ثانيهما: تجاهل القوة الذاتية للحركة الصهيونية وهو تجاهل تسعى اليه الصهيونية ذاتها لانه يوفر لها الأمن اللازم للتفرغ لاعداد القدرة على الغدر إذ يلهي الأمة العربية عن طبيعتها العدوانية الخطرة.

إذن فمحاولتنا معرفة العلاقة بين نشاط الصهيونية ونشاط الولايات المتحدة الامريكية على الأرض العربية يجب أن تبدأ من التسليم بان كلاً منهما منطقة سياسية مستقلة في مبادئها وفي استراتيجيتها وفي تكتيكها، وان أي منهما ليست تابعة ولا خاضعة ولا أداة للأخرى . عندئذ نتبين بوضوح أنه إذا كنا نلمس خلال الممارسة ان النشاط التكتيكي لكل من الصهيونية والولايات المتحدة الامريكية في الوطن العربي متفقاً في " أغراضه " فان هذا يكشف عن التقاء واتفاق في طبيعة الأهداف الاستراتيجية لكل من الصهيونية والامبريالية الامريكية في الوطن العربي . فكلاهما قوة معادية وان كانت كل منهما تخدم أغراضها الخاصة . ان هذا لا يعني انعزال أيأ منهما عن الأخرى،، بالعكس ، انه يعني تمامأ أن وراء هذا الالتقاء التكتيكي تحالفاً استراتيجياً يتجاوز أحداث يونيو 1967 واحتلال سيناء والضفة الغربية ومرتفعات جولان. ولكنه يعني أيضأ أن هزيمة أياً منهما لا تؤدي مباشرة إلى هزيمة الأخرى ، وأن علينا أن نواجههما معاً في معركة حياة أو موت طويلة المدى لن تنتهي بما يسمى "إزالة آثار العدوان " ولا باسترداد الأرض المغتصبة من فلسطين ، بل بسحق المنظمة الصهيونية العالمية وتدميرها حتى خارج الوطن العربي والقضاء على الاستعمار الامريكي . أي اننا - نحن أيضاً في حاجة - إلى تخطيط سياسي أبعد من إزالة آثار العدوان بل أبعد من استرداد فلسطين وإزالة دولة إسرائيل .

أهم من هذا أن نفهم ان الصهيونية العالمية لن تكف عن العدوان من أجل الحفاظ على السلام أو احترامأ للرأي العام العالمي وان الولايات المتحدة الامريكية لن تغير سياستها في الوطن العربي لمجرد انه " لا يليق " بدولة كبرى ألا تكون عادلة في موقفها من الصراع العربي الصهيوني ، أو إذا كففنا عن التشهير بالامبريالية الامريكية ، أو سعينا إلى صداقتها . ذلك لان التحالف الصهيوني الامريكي ضد الأمة العربية قد فرضه التزام كل من الصهيونية والولايات المتحدة الامريكية الأسلوب العلمي في نشاطهما السياسي . والذين ينتهجون العلم اسلوباً لا يغيرون سياستهم تحت تأثير النفاق أو السباب أو العواطف ، لأنهم يعلمون تمامأ انه طريق النصر المطرد.

وهكذا نرى أنه بمجرد تسليمنا بأن السياسة علم له قواعده وقوانينه نستطيع أن نعرف من مواقع أعدائنا واتجاهاتهم أكثر مما نعرف " بالفهلوة " السياسية . يكفي أن نتصور أنفسنا مكانهم وأن نفكر تفكيراً علمياً لنعرف مبادئهم السياسية، ونفهم تحركاتهم التكتيكية، ونستطيع أن نربط بين هذه وتلك لنكتشف استراتيجيتهم البعيدة ، وبالتالي نسبق الزمن ونعرف الأحداث المتوقعة قبل أن تقع... وعندما نفشل في هذا نعرف معرفة اليقين لماذا انتصر أعداؤنا .

13- في مقابل هذا ، لا نريد أن نستطرد في التدليل على العمل السياسي العربي قبل 5 يونيو (حزيران) لم يكن قائمأ على أسس علمية ، ولا منتهجاً اسلوباً علمياً ، فان يوم 5 يوذيو ذاته يتضمن دليلأ لا ينقض . وإذا كانت العلامة المميزة للاسلوب العلمي في السياسة هي سبق الأحداث والتحكم في الظروف بحيث يقع غير ما نتوقعه فكلنا يعلم أن الأمة العربية كانت منذ أمد بعيد تلهث جريأ وراء الحوادث التي تدور على الأرض العربية ، مندهشة في كل مرة من المفاجآت السياسية التي تتفجر في وطنها ، باذلة جهوداً خارقة في محاولات متأخرة لتدارك ما وقع . وفي كل مرة تفيق من حدث ، تاريخي تفاجأ بمواجهة غير متوقعة لحوادث لم تكن قد أعدت نفسها لمواجهتها، أي أن النشاط السياسي العربي حتى في جانبه الإيجابي كان في أغلب الحالات رد فعل أثارته قوى غير عربية . ان وحدة 1958 ذاتها التي كانت قمة المد العربي لم تكن ثمرة تخطيط سياسي واعٍ لتحقيقها على مستوى الاقليمين بل كانت ملاذاً قومياً لجأت اليه سورية كرد فعل لتحرك استعماري كان يحيط بها فقبل عام من تحقيقها لم يكن أحد يعلم أنها ستتحقق بعد عام . وكثير من انتصاراتنا كان هكذا . بل ان رغبتنا الجامحة في تحقيق انتصارات سريعة ومحددة كانت مدخلاً لتخطيط واع يقدم لنا فرص النصر المؤقت ليحرمنا من المقدرة على الانتصار الدائم . وهكذا استنفدنا قدراً كبيراً من طاقتنا على العمل القومي طويل المدى في معارك جزئية ومحددة تبيّنا الآن أن انتصارنا فيها كان مؤقتاً .

ومع هذا فانه من التعسف الظالم ان نقول ان السياسة العربية كانت " دائماً " رد فعل تحركه مخططات معادية . ذلك لأن المنجزات الإيجابية التي تمت في الوطن العربي في السنين الأخيرة، والتي لا يمكن انكار قيمتها التحررية والتقدمية ، ثم التجاء أعدائنا أنفسهم إلى القوة المسلحة، يدلان بوضوح على اننا كناعقبة على طريق مخططاتهم المعادية وأننا حققنا انتصارات بالرغم من تلك المخططات . غير أن هذا لاينفي ما قلناه من أن السياسة العربية كانت بعيدة عن انتهاج الاسلوب العلمي . ذلك لأن عدم انتهاجنا الاسلوب العلمي في العمل السياسي قد لا يحول دون أن نحقق نجاحأ في أحد الميادين أو حتى في كثير منها. إذ أن البديل عن الاسلوب العلمي هو الاسلوب التجريبي . والتجربة قد تصيب فننتصر وقد تخيب فننهزم . وكثيرأ ما كانت تلهينا الجوانب الصائبة عن الجوانب الخائبة ، فنشيد بانتصاراتنا بدون أن نفطن إلى عوامل الهزيمة الكامنة في ذات الاسلوب الذي أدى إلى النصر... إلى أن نفاجأ بهزائم لم تخطر على بالنا فنتبين أن الحصيلة النهائية لسياستنا - في المدى الطويل - ليست نصرآ على أي حال . عندئذ نفعل ما نفعله اليوم ، فنحن ننكر ونتنكر وندين أغلب القيم والأفكار والاساليب التي كانت سائدة قبل الهزيمة . ونحن نمارس عملية محاسبة قاسية لأنفسنا ، ونكاد نجمع على أن كل شيء في الحياة العربية التي انتهت إلى 5 يونيو (حزيران) 1967 يجب أن يتغير . مؤدى هذا أننا نعترف بأننا انتهجنا اسلوباً خاطئاً .

وهذه ظاهرة صحية. غير ان كل شيء في المستقبل يتوقف على ان ننتهج الاسلوب العلمي الصحيح .

نقول المقدرة على أن ننتهج الاسلوب العلمي الصحيح لأن الاسلوب طريقة للممارسة وبالتالي فان المعرفة النظرية بالأساليب العلمية ، أو حق توافر الامكانيات اللازمة لانتهاجها لا يغني شيئاً إذا كنا غير قادرين على وضعها موضع التنفيذ .

فنحن نعلم منذ عشرين عامأ ان غايتنا تحرير فلسطين ولا نكف عن ادانة الاستعمار وتأكيد تصميمنا على التحرر . وهكذا يبدو أن قد توافرت لنا النظرية (المبادىء) اللازمة للعمل السياسي العربي ، أي توافر لنا أول عناصر الأسلوب العلمي اللازم لتحقيق النصر .

ونحن أمة قد توافرت لها الامكانيات اللازمة والكافية لتحقيق غايتها .

لقد قيل ببساطة متسرعة ان اسرائيل قد تفوفت في حرب يونيو (حزيران) 1967 لانها تضم عدداً أكثر وفرة من العلماء والفنيين الذين نزحوا اليها من أوربا المتفوقة في المعرفة والعلم والتكنولوجيا. وقد تكون هذه الوفرة صحيحة إذا نسبت إلى عدد الاسرائيليين في أرض فلسطين المحتلة ، ولكنها تكون غير صحيحة إذا كانت بصدد المقارنة بين امكانياتهم العلمية وامكانياتنا . ان القاهرة وحدها تستطيع أن تفرز من بين أبنائها عدداً من العلماء والمتخصصين من خريجي الجامعات الاوربية والعربية يساوي أو يزيد على كل الرجال الذين نزحوا من أوربا إلى فلسطين . وفي الوطن العربي من خريجي الكليات والمعاهد العسكرية المتخصصة ما يقارب أو يساوي عدد الجنود المحترفين في إسرائيل . وفي الوطن العربي من الشباب القادر على العمل السياسي والثوري أضعاف كل الصهاينة في العالم رجالاً ونساء وأطفالاً . وفي الوطن العربي مقدرة على الفداء استطاعت أن تقدم ما يساوي نصف الاسرائيليين من الشهداء في الجزائر وحدها .

وفي كل المجالات المادية والبشرية والاقتصادية لدينا امكانيات متاحة تتجاوز بما لا يقاس ما تملكه إسرائيل وتكفي بما لا يقبل الشك لمواجهة كل ما تملكه الصهيونية .

ليس التفوق- إذن- في الامكانيات المتاحة ، فنحن هنا متفوقون بشكل ساحق . انما التفوق في "كيفية" استخدام الامكانيات المتاحة ونحن هنا المتخلفون . وإذا كان هذا يعني أننا نفتقد الاسلوب العلمي في استخدام امكانياتنا ، فإنه يعني تماماً - ان الاسلوب العلمي هو العنصر الجوهري الذي يستطيع أن يعّوض النقص في الامكانيات وانه يقلب موازين القوى لصالح الذين ينتهجونه .

إن هذا أحد الدروس الثمينة التي تعلمناها يوم 5 يونيو (حزيران) المشئوم .

-4-

ما الذي ينقصنا ؟

13- إذا كاذت غايتنا المعلنة محددة ، وكانت قد توافرت لنا الامكانيات المادية والكوادر البشرية اللازمة والكافية والمؤهلة للقيام بالمهمات التكتيكية على مستوى الممارسة فما الذي كان ينقصنا حتى تكتمل لنا المقدرة العلمية على النصر ؟

انها الاستراتيجية الاستراتيجية العربية .

منذ أمد بعيد والسياسة العربية تفتقد عنصر التخطيط الطويل المدى .لم يحدث أن توافر للسياسة العربية في العصرالحديث - عصر العلم - ذلك العنصر الأساسي في الاسلوب العلمي: استراتيجية تتضمن الخط الثابت للنضال العربي انطلاقأ من واقع الأمة العربية حتى غاياتها، مقسمة على مراحل زمنية، حاشدة كل الامكانيات المادية والبشرية، موزعة العمل على كل الكوادر المتاحة في الوطن العربي ، تضبط النشاط السياسي في كل المواقع والمجالات بحيث يتم- مهما كان متنوعأ- في إطار الخطة القومية ولخدمة أغراضها ، ثم قيادة كل هذا عن طريق المتابعة والمراقبة والجزاء . ومعنى هذا إن فيما بين غايتنا وبين إمكانيات تقوم ثغرة خطيرة تحيل الغايات إلى مجرد شعارات مرفوعة غير قابلة للتحقق . وتحيل الامكانيات إلى طاقات عاطلة من الفعالية . من هذه الثغرة - غيبة الاستراتيجية العربية - نفذت وتنفذ إلى مواقعنا القوى المعادية ثم تكسب ، ومن هذه الثغرة تسربت وتتسرب - جهودنا ثم تضيع . وفي هذه الثغرة تكمن الاستحالة العلمية لاخضاع السياسة العربية لأي اسلوب علمي . ومع وجود هذه الثغرة لا يمكن أن يتحقق لنا في المدى الطويل نصر حاسم . ذلك لاننا - بدون استراتيجية- لا نستطيع أن نسبق الحوادث وأن نتحكم في وقوعها لتسبقنا اليها عندئذ - وتفجرها على أرضنا ، العربية القوى المضادة طبقاً لاستراتيجيتها الخاصة . وبينما ننشغل نحن بالحدث الذي وقع وأدهشنا وقوعه ، تكون تلك القوى مشغولة بالاعداد لتنفيذ الخطوة التالية من مخططاتها السياسية... وهكذا .

والحقيقة ان افتقاد السياسة العربية استراتيجية عمل طويلة المدى يتحرك على أساسها ثم يصب فيها النشاط السياسي في الوطن العربي لم يكن خافيأ على كثيرين من العاملين في الحقل السياسي. كما أن عوامل الفشل الكامنة في هذا النقص لم تكن خافية على الذين يهمهم نجاح النضال العربي . وقد كان هذا الادراك كافيأ لتحريك محاولات متلاحقة ومتنوعة لسد الثغرة الهدامة على مستوى السياسة الرسمية لبعض الدول العربية وعلى مستوى النشاط السياسي الجماهيري كليهما.

فقد كانت جامعة الدول العربية محاولة لإيجاد رابطة " غير ملزمة " بين سياسات الدول العربية . وبجوار الجامعة العربية قامت محاولات سياسية أخرى تحت شعار التضامن العربي ، أو وحدة الصف العربي ، أو وحدة العمل العربي ... الخ بلغت أقصى صيغة ممكنة لها في مؤتمرات القمة . غير ان التجسيد الفعلي لها قد صيغ في عديد من الاتفاقات الثنائية ( أو بين أكثر من دولتين) في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية .

وعلى المستوى الجماهيري نشطت ابتداء من الاربعينات حركة البحث عن صيغ ممكنة للعمل السياسي الجماهيري العربي الموحد . وقامت محاولات مبكرة لتجاوز المنظمات السياسية الاقليمية إلى التنظيم ذي الفروع في الأقاليم . وقامت اتحادات مهنية للعمال والمحامين والأطباء والمهندسين تحاول في حدود طاقتها تخطي الحواجز العازلة بين القوى العاملة في الوطن العربي. وشكل كل هذا مداً عربياً جماهيرياً " كاد " أن يستكمل مقدرته العلمية على النصر عندما تبنت الجماهير العربية - تلقائياً- الاستراتيجية السياسية المعلنة في القاهرة . وشاهد الوطن العربي ابتداء من 1955 تجاوزاً حاسماً للمبادرات التنظيمية المبكرة إلى حركة سياسية جماهيرية عربية فذة في خصائصها ، فقد توافرت لها وحدة الغاية ووحدة الاستراتيجية ووحدة القيادة بدون وحدة "التنظيم " . ومع أن هذه الصيغة الناقصة قد استطاعت أن تحقق أروع الانتصارات العربية ، وأن تردع القوى المضادة ، فإن غيبة التنظيم كانت حكمأ سابقأ عليها بالفشل والانحسار. لقد كان ذات الاسلوب الذي حقق النصر يتضمن عناصر الهزيمة . وكانت فرحتنا الشاملة بالانتصارات بدون أن نفطن إلى اسلوبنا الخاطىء يعني أن ستكون هزيمتنا مفاجئة لنا . وفعلأ في ساعات قليلة شلت المفاجأة فيها المقدرة العربية ، راقبت الجماهير العربية المشدوهة حفنة هزيلة من العملاء يحطمون وحدة الجمهورية العربية المتحدة ، ويغتصبون الإقليم الشمالي ببساطة مذهلة وبدون مقاومة. وانحسر المد العربي الجماهيري ابتداء من سبتمبر (أيلول) 1961 ، لنكتشف بعد فوات الأوان ( كما تكرر كثيراً ) ان الهزيمة هي الجزاء المناسب لأي اسلوب غير علمي في النضال السياسي... فلما ان اكتشفنا عدنا مرة أخرى إلى البحث عن صيغ تربط بين الحركة السياسية في الوطن العربي وغاياتها برباط استراتيجي .

13- لقد كانت كل تلك الأفكار والصيغ والمحاولات تستند إلى معرفة بضرورة وجود استراتيجية عربية واحدة وبمدى العجز السياسي الذي تسببه غيبة هذه الاستراتيجيه ثم التطلع إلى تعويض هذا العجز. وكان طبيعياً أن تأتي هزيمة يونيو (حزيران) 1967 لتثبت بما لايقبل الشك ان كل تلك الأفكار والمحاولات والصيغ على المستويين الرسمي والجماهيري قد فشلت في أن توفر للسياسة العربية الاستراتيجية التي تفتقدها، أي عجزت عن أن توفر لها أسباب النصر .

لماذا ؟

في محاولة الإجابة على هذا السؤال ينفعل بعض من الشباب العربي ويوزعون الاتهامات- التي قد تصل إلى حد الخيانة على أغلبية الذين عملوا في حقل السياسة العربية طوال قرن . ويتحدث الشيوخ المجربون عن انعدام الاخلاص .. والانتهازية والانانية.. الخ. وهي طريقة للاجابة تدل بذاتها على ان حاجتنا إلى الاسلوب العلمي حتى في التفكير السياسي واصلة حد المأساة . ان الخيانة وعدم الاخلاص والانحراف .. الخ . ظواهر فردية لايخلو منها تاريخ أمة، وهي تبرر دائماً الانفعال ضد الخائنين والمنحرفين . ولكن من السطحية أن نتهم الفاشلين دائمأ بأنهم خونة أو غير مخلصين . ان هذا يعني أن تاريخ الأمم تصنعه الأهواء بدون توقف على الظروف الموضوعية . وهو غير صحيح . ان الذين يطيب لهم أن يهيلوا التراب على أجيال من المناضلين الذين حاولوا نصرة أمتهم في ظروف بالغة القسوة ثم ينفضون أيديهم من الواقع الذي هزمهم، انما يحاولون الحصول على براءة كاذبة سرعان ما تكشفها الظروف التي ظنوا انهم قد دفنوها يوم أن دفنوا ضحاياها. إذ أن السؤال الذي يتحدى الشباب الذين لا يكفون عن التشهير بتاريخ النضال العربي هو: فليكن ما تقولون فان أحدأ لا يرغب في رفع أصبع دفاعأ عن الفاشلين، ولكن ماذا أنتم فاعلون ؟ عندئذ سيرون ان الخطيئة لا تبرر الخطأ، وإن الفشل لا يبرر السلبية، وإن كل الوفاء القومي والإخلاص والاستقامة لا تغني عن العمل الإيجابي العلمي المنظم للسيطرة على الظروف وسبق الأحداث والتحكم في وقوعها ، أي لا تكفي لتحقيق النصر وتجنب الهزيمة . أليس هذا أحد الدروس التي تعلمناها يوم 5 يونيو (حزيران) 1967.

على أي حال إذا كنا نحصّل اليوم دروسأ من الهزيمة لكي نستطيع أن نحقق النصر، عرفنا منها أولأ إن السياسة العربية لم تكن تنتهج الاسلوب العلمي ، وعرفنا منها ثانيأ ان تلك السياسة كانت تفتقد من عناصر الاسلوب العلمي الاستراتيجية العربية طويلة المدى ، وعرفنا منها ثالثاً ان الأفكار والأساليب والمحاولات والصيغ التي استهدفت تجاوز هذا النقص قد فشلت ، فأولى بنا- بدلاً من السباب الغاضب - ان نعرف ما الذي أدى بأجيال من الساسة العرب ، الذين لم تنقصهم المعرفة بالاسلوب العلمي ، ولم تنقصهم الرغبة في التزامه، ولم يكفوا عن محاولات انتهاجه ... إلى الفشل فالعجز فالهزيمة .. ذلك أولى بنا لأنه مهما تكن مبررات ادانتنا للماضي المهزوم فإن على هذه المعرفة تتوقف مقدرتنا على تحقيق المستقبل المنتصر .

وهنا لابد من التفرقة في الحديث بين السياسة العربية الرسمية كما تمارسها الدول العربية وبين السياسة العربية الجماهيرية كما تمارسها القوى الشعبية العربية .

- 5 -

التجزئة تساوي الفشل

14- ان الدول العربية منظمات سياسية تتوافر لكل منها وحدة التنظيم ووحدة القيادة . وهي لا تكف عن اعلان ان غايتها تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني. وسواء صدقت النوايا أم لم تصدق فانها قد خاضت ضد الصهيونية ثلاث حروب فاشلة في أقل من عشرين عاماً . سيقال ان بعضاً منها كان يحركه الاستعمار حتى في ساحة القتال فهو عميل لا يعتد بما يعلن أو يفعل - فليكن... اننا نقصر الحديث- إذن - على الدول العربية المسماة " متحررة " . وإذا قيل ان ليس كل الدول المتحررة دولأ تقدمية وان ذلك عنصر يحول دون وحدة الاستراتيجية السياسية بين الدول العربية المتحررة ، نقول فليكن . اننا نقصر الحديث إذن على الدول العربية المتحررة المسماة " تقدمية " . كل هذا لاننا لا نريد - أولأ- أن نخوض الان في حديث جانبي عن مفهوم الحرية والتقدمية في الوطن العربي . ولا نريد ثانياً - أن نتعرض لمدى " صدق " كل الأعذار التي تقدم لعدم التزام الدول العربية استراتيجية سياسية واحدة . انما نريد أن نكشف المصدر المقيم لعجزها عن هذا الالتزام . نريد أن نرد الفشل في السياسة العربية إلى سببه الأساسي وهو سبب مشترك بين كل الدول العربية ، حتى المتحررة ، حتى التقدمية ، أي حتى تلك الدول التي لا تستطيع أن تقدم إلى الجماهير العربيه عذراً غيره للفشل .

ذلك السبب هو التجزئة .

15- فعلى المستوى الرسمي تقوم تجزئة الوطن العربي إلى دول عديدة حائلأ دون أن تكون لهذه الدول استراتيجية عمل سياسي واحدة حتى لو رغب حكامها في هذا . اننا لانحاول التشهير بالتجزئة بالرغم من أنها تستحق التشهير، وانما نحاول أن نضع أمام أعيننا حقيقة باردة كالموت ذاته هي ان تعدد الدول - أية دول ومنها الدول العربية - حول دون وحدة الاستراتيجية .

ذلك لان الدولة- أية دولة- تستطيع أن تنتهج الاسلوب العلمي في سياستها، وهذا لا شك فيه . فهي منظمة سياسية تملك الكوادر من المؤسسات والأجهزة والموظفين وتملك الغايات وقادرة ان أرادت على أن تضع لذاتها تخطيطاً سياسياً طويل المدى ( استراتيجية ) يربط بين غاياتها وبين تحرك نشاط مؤسساتها وأجهزتها وموظفيها ، وتقوم على قيادته ومراقبة تنفيذه قيادة واحدة متوافرة في كل دولة ( الحكومة ) . غير أن هناك قيوداً وحدوداً مستمدة من طبيعة الدولة كمنظمة سياسية تفرض ذاتها على أية حكومة في أية دولة وتتحكم في مخططاتها السياسية .

أول هذه القيود التزامها " الدستوري " بأن تحدد غاياتها وتضع استراتيجيتها وتتحرك انطلاقأ من، وعلى أساس ، وفي خدمة مصالحها الخاصة . إن الدولة كمنظمة سياسية لا ثقوم في فراغ. والنظام القانوني في أية دولة ابتداء بالدستور أو القانون الأساسي حتى الأوامر الادارية اليومية ليست مجموعة من النصوص المفرغة من أي مضمون ، بل ان الدولة ونظامها يجسدان ويحميان مصالح معينة وخاصة . ومهما تكن نوايا الأفراد فإن تولي الحكم في الدولة وان كان يمنح قادتها مقدرة أكبر على تحقيق أهدافهم الا انه يعيد صياغة هذه الأهداف وتحديدها على وجه يتفق مع المصالح التي تمثلها الدولة كمنظمة سياسية مستقلة . هذه قيود لا يمكن الفكاك منها وحدود لا يمكن تخطيها . بل ان قبول الحكم في أية دولة يتضمن قبول الالتزام بهذه القيود والحدود . لهذا يكون من السذاجة أن نطالب أية حكومة في أية دولة مستقلة أو حتى أن نتوقع منها أن تستهدف من نشاطها السياسي غير غاياتها الذاتية .

ولقد تمت في التاريخ الحديث تجربة مثيرة حاولت فيها القيادة الستالينية في الاتحاد السوفييتي إلزام بعض الدول الاشتراكية خططاً سياسية استراتيجية بحجة ان تلك الدول تنطلق من نظرية واحدة . وقد فشلت التجربة وأدينت وكان الاتحاد السوفييتي هو أول من أدانها وأعلن فشلها. واتضح انه عندما يكون الأمر على مستوى سياسة الدول يجب التفرقة بدقة بين المفاهيم المختلفة لكلمة " نظرية "، أن اتفاق الدول على " نظرية " فلسفية واحدة ولو كانت المادية ، أو اتفاقها على

" نظرية " واحدة في المعرفة ولو كانت الجدلية لا يعني اتفاقها على " نظرية " سياسة واحدة . إذ النظرية السياسية هنا هي مجموع المبادىء التي تحدد اتجاه سياسة دولة معين ، فهي محصلة تفاعل النظرية الفلسفية ونظرية المعرفة مع واقع خاص فلا بد أن تأتي ذات مضامين خاصة تتفق مع ما تتطلبه المشكلات التي يطرحها ذلك الواقع من حلول ومنجزات . لم يعد أحد ينكر هذا . كما لا يستطيع أحد أن ينكر أنه عندما تتبنى دولة ما غايات دولة أخرى تفقد استقلالها حتى لو لم تكن محتلة . وثمة نماذج كثيرة من هذه الدول المسخرة لخدمة النظرية السياسية للولايات المتحدة الامريكية وغاياتها. ان هذا هو ما نسميه بالاستعمار الجديد .

نرجو أن يكون كل هذا واضحاً .

فان كان واضحأ فان مؤداه أن الدول المتحررة لها دائماً غايات مستقلة أي انها تنطلق دائمأ- وبحكم استقلالها - من نظرية سياسية خاصة بها . وكلما تعددت الدول تعددت النظريات السياسية التي تحدد غاياتها . ومن هنا يحول التعدد بطبيعته دون أن يتوافر لأكثر من دولة أول عناصر وحدة الاستراتيجية ونعني به وحدة النظرية التي تقوم الاستراتيجية على أساسها .

ثم ان هناك عوامل جديدة تؤكد تعدد الخطط الاستراتيجية تبعأ لتعدد الدول واستحالة وحدة الاستراتيجية بين الدول المستقلة ، من هذه العوامل تعدد القيادات بتعدد الحكومات بينما تقتضي وحدة الاستراتيجية- كما عرفنا - وحدة القيادة . ومنها ان أية دولة لا تستطيع أن تضع خططاً استراتيجية تتجاوز امكانياتها الخاصة أي لا تستطيع أن تدخل في حساب سياستها طويلة المدى الامكانيات المادية أو الاقتصادية أو البشرية المتاحة في الدول المجاورة أو الصديقة. ومنها استحالة الالزام والمتابعة والحساب الا بالنسبة إلى رعاياها اذ ان أية دولة لا تملك أن تمد سلطتها في الالزام والمتابعة والحساب الى رعايا غيرها من الدول ولو في سبيل خدمة قضية مشتركة لانها بحكم كونها " دولة " ملزمة " دولياً " باحترام استقلال وسيادة الدول الأخرى وعدم التدخل في شئونها "... الخ الخ.

16- بدهي بعد كل هذا أن تكون لكل دولة مستقلة استراتيجية عمل سياسي خاصة بها . إلا أن هذا كله لا يحول دون أن تلتقي الدول وان تنسق بين مواقفها السياسية وأن تتعاون وأن تتحالف على المستوى التكتيكي وعلى المستوى الاستراتيجي كليهما . بل ان هذا ممكن خاصة في مواجهة خطر مشترك. ولكنه التقاء وتنسيق وتعاون وتحالف يتوقف ، ويظل متوقفأ ، على الارادة المنفردة لكل دولة على حدة ، وينفرط في اللحظة التي تقدر فيها أية دولة من أطرافه أن استمراره يعرض مصالحها لمزيد من الخطر أو أنها قادرة بدونه ، أن توفر لمصالحها الخاصة الأمن والتأمين اللازمين. ومن هـنا فان أي التقاء بين الدول أو تعاون أو تحالف تمليه عليها ضرورة مواجهة مشكلة مشتركة يخفي وراءه موقفين :

أولهما: ان كل دولة تدرك طبيعة المشكلة المشتركة بذهنية انفصالية فلا تكون المشكلة - بالنسبة اليها- قائمة ولا حادة ولا مستمرة إلا بقدر مساسها بمصالحها الخاصة . فهي تعتبرها - دائماً مشكلة خارجية وطارئة ، وتقيسها طبقاً لنظريتها السياسية الخاصة ، ولا تحشد لها من الامكانيات إلا بقدر ما تطقية مقدرتها الذاتية ، وتستهدف إزائها دائماً غاية خاصة (الحصول على مكسب خاص أو تجنب خسائر خاصة) . لهذا عندما تفرض الظروف على بعض الدول أن تلتقي أو تتعاون أو تتحالف - تكون تلك مشاركة المرغم الذي ينتهز أول فرصة للهروب من تلك المشكلات التي تلهيه عن نضاله ( الوطني/ والقابل دائماً للمساومة على الهرب أو لنسمه التراجع.

ثانيهما : ولأن كل الدول تعرف هذا الموقف الذي لا ينفيه ما يظن من إخلاص " أبدي " بين الحلفاء فإن كلاً منها تعد ولا تعلن- خططأ " احتياطية " لمواجهة تراجع أو تخاذل أوغدر حلفائها، بما يقتضيه هذا من تجنيب قدر " احتياطي " من امكانياتها بعيدأ عن خدمة الهدف المشترك، ثم تخصيص قدر آخر لاستكشاف النوايا الخفية لحلفائها ، ثم تخصيص قدر ثالث لردع أي حليف عن التراجع.. الخ انه الصراع داخل التحالف وهو أحد القوانين الثابتة للعمل السياسي.

من هذين الموقفين اللذين لا تستطيع أية دولة مستقلة أن تتنازل عنهما تلجأ الدول في أغلب الأحوال إلى الاتفاقات التكتيكية قصيرة المدى ولو كانت قابلة للامتداد باتفاق الطرفين وتقصرها عادة على مشكلة نوعية واحدة . وقلما تلجأ إلى تحالف استراتيجي طويل المدى ، ثم يستحيل عليها أمران : ان تلتزم استراتيجية واحدة تنفي التعدد ، وأن تتحالف تحالفاً على الغاء وجودها من أجل مصير واحد .

كل هذا يبدو بدهياً ، وهو ما يعني ان أقل قدر من الغرور قادر على أن يلهينا عن الانتباه اليه ويغرينا بتجاهله . وهنا المقتل . فكم من الدول ذهبت ضحايا حسابات سياسية مغرورة لم تقم وزنأ للبدهيات.

17- على أي حال فان ما يصدق على الدول عامة يصدق على الدول العربية . ومن الغباء الذي لا تسأل عن نتائجه العربية أن نتوقع منها أن تكون شيئاً غير " دول " وان اسميناها عربية . فإذا افترضنا - جدلاً - ان كل واحدة من الدول العربية قد انتهجت اسلوباً علمياً في سياستها فكانت لها استراتيجية خاصة في مواجهة الصهيونية فإنا لا نستطيع أن نتوقع منها أن تواجه من الخطر الصهيوني أكثر من القدر الذي يمسها كدولة لان الدول لا تتطوع في المعارك بدون غاية إذا كانت تقيم سياستها على أسس علمية . ان المخططات الصهيونية التي تستهدف قيام دولة عنصرية على الأرض العربية من الفرات إلى النيل تتناقض تناقض الحياة أو الموت مع الحركة القومية التي تستهدف قيام دولة الوحدة العربية ، إذ الصراع هنا صراع حول " الوجود " على ذات الأرض فإما الدولة العربية وإما الدولة الصهيونية . وهذا هو التفسير الوحيد للقول بأن قضية فلسطين قضية قومية ، وأن مسؤولية الوجود الاسرائيلي تقع على عاتق الأمة العربية . وهو صحيح . صحيح أيضاً أن هذا التناقض يمس الدول العربية بحكم ان كلأ منها تقوم على جزء من الوطن العربي وإن كانت تعزله ، وتضم جزءاً من الأمة العربية وان كانت تحصره . وهو ما يبرر مساهمة الدول العربية كلها في رد الخطر الصهيوني الذي يتهددها . ولكن النظر إلى هذا الخطر من زاوية اقليمية ، وتقدير مدى عمق وحدة ذلك التناقض على ضوء " نظرية " كل دولة عربية على حدة باعتبارها منظمة سياسية مستقلة يؤديان إلى نتيجة كان تجاهلها سبباً فيما أحاط سياسة الدول العربية من اضطراب وغموض وتردد . تلك هي أن مخططات الصهيونية وما تم من مراحلها حتى الآن ( اغتصاب جزء من فلسطين سنة 1948 ، الاعتداء على مصر واحتلال خليج العقبة سنة 1956 ، احتلال الضفة الغربية من الأردن ، ومرتفعات الجولان من سورية وصحراء سيناء من مصر سنة 1967 ) لا تمثل بالنسبة إلى كل الدول العربية قدراً واحداً ومتساوياً من الخطر . إنها مشكلة احتلال جزء من الأرض بالنسبة إلى بعض الدول ، وهي خطر داهم وحال بالنسبة إلى دول أخرى ، وهي خطر محتمل ومؤجل بالنسبة إلى دول ثالثة ... الخ .

ولو استطعنا أن نفرز ما قامت به بعض الدول العربية تحت تأثير ضغط الحركة القومية عما قامت بة باعتبارها دولاً مستقلة ثم قارنا مواقف الدول العربية طوال العشرين سنة الماضية من الخطر الصهيوني على ضوء تطوره ونموه لاكتشفنا بوضوح ان تلك المواقف كانت تختلف من وقت الى آخر ، ومن دولة الى دولة تبعاً لما تقدره كل منها- على ضوء استقلال مصالحها- من جدية ذلك الخطر ومدى الحاحه وامكانيات تلافيه . وعلى الذين قد يجدون هذا غريباً تحت تأثير التظاهرات الدعائية التي تستهدف إرضاء الضغط الجماهيري القومي أن يتذكروا أن كل محاولات الالتقاء أو التنسيق أو التعاون بين الدول العربية كانت تتم في نطاق " الدفاع " ضد اعتداء اسرائيلي متوقع أو حال ، ثم تنفض ، وانها لم تتم أبدآ في نطاق الاعداد " الإيجابي " لسحق الصهيونية وتحرير فلسطين . ثم إنها في كل الحالات كانت عاجزة عن تجاوز " الحد المشترك " بين الدول الملتقية أو المنسقة أو المتعاونة ، والحد المشترك بالضرورة " الحد الادنى " .

مؤدى هذا ان في طاقة كل دولة عربية ان تكون لها " اقليمية " لمواجهة الخطر الصهيوني والاستعماري في الشرق العربي ، وقد تتوافر لتلك السياسة عناصر الاسلوب العلمي ، وقد تلتقي مع السياسة الاقليمية لأية دولة عربية أخرى أو مجموعة من الدول العربية ، ولكن تعدد الدول العربية - بحكم التجزئة يحول دون أن توجد " سياسة عربية " علمية على المستوى " الرسمي " في الوطن العربي . لأن هذه " السياسة العربية " لا تكون علمية إلا إذا توافرت لها وحدة التنظيم وهذا يعني - على المستوى الرسمي - وحدة الدولة ، وتوافرت لها وحدة القيادة وهذا يعني- على المستوى الرسمي - وحدة الحكومة . فإذا كان تعدد الدول في الوطن العربي وبالتالي تعدد حكوماتها ينفي دولة الوحدة العربية وحكومتها ، فإنه ينفي بالضرورة إمكان وحدة الاستراتيجية العربية بين تلك الدول أى ينفي مقدرتها على تحقيق النصر العربي .

ولعله يكون واضحأ الآن اننا كما نعتبر السياسة الاقليمية شيئاً غير السياسة العربية وان كان موضوعها الأحداث والقوى المتصارعة في الوطن العربي ، فاننا عندما نتحدث عن النصر العربي نعني به شيئاً غير النصر الذي تحققه الدول الاقليمية دفاعاً عن وجودها أو إزالة لآثار العدوان عليها . ان بعض الدول العربية تستطيع ان أحسنت استخدام امكانياتها أن تدافع عن نفسها وأن ترد عدوان إسرائيل وتنتصر عليها. ولكن النصر العربي أبعد من هذا مدى وأشمل غاية . انه لا يتوقف عند إزالة آثار العدوان ولا حتى عند تحرير فلسطين ولكنه يتم عندما تتحقق غايته القومية : إقامة دولة الوحدة .

أما ما دون هذا فيعتبر معارك تكتيكية على الطريق اليه ، قد تكسب الأمة العربية بعضها فلا يكون النصر فيها إلا نقطة انطلاق إلى معارك جديدة ، وقد تخسر بعضها فلا تكون الهزيمة إلا تراجعاً لمعاودة الزحف والتقدم... وهكذا إلى ان تقيم دولة الوحدة ، عندئذ فقط تكون قد انتصرت. لهذا قلنا ونقول دائماً ان الدول الاقليمية غير قادرة على تحقيق النصر العربي ، فان طريق النصر العربي الذي يبدأ بإزالة آثار العدوان فتحرير فلسطين لن يتوقف إلى أن يصل إلى غايته :

الغاء الوجود الاقليمي للدول العربية وتحقيق الوحدة - وتلك معركة طويلة وشاملة تتطلب استراتيجية نضال طويلة وشاملة لاتتفق مع طبيعة ومقدرة الدول العربية حتى لو نسقت بين- مواقفها على المستوى التكتيكي وحتى لو حسنت النوايا .

وبمناسبة النوايا ثمة كلمة لا بد من أن تقال .

اننا لا يمكن أن نقبل ببساطة الخلط بين الطبيعة الاقليمية للدول العربية وبين مواقف حكامها وقادتها. ذلك لان وراء الدول العربية والحكام والقادة حركة قومية نشيطة لا تكف عن محاولة فرض غاياتها على الدول والحكومات . وبينما تظل الدول العربية دولأ اقليمية بحكم طبيعتها لاتتغير، تتغير مواقف الحكام والقادة تبعاً لمدى تمثيلهم أو استجابتهم لحركة الجماهير العربية، ونحن نعرف أن في بعض الدول العربية قادة ينتمون إلى الحركة القومية وان كانت الظروف قد وضعتهم في مراكز القيادة من الدول الاقليمية. فهم في مأزق لا تكف تناقضاته عن الانعكاس على تصرفاتهم . انهم يخوضون صراعأ مريراً بين واجباتهم كما يحددها الولاء القومي، وبين مسؤولياتهم كما يحددها الالتزام الاقليمي . فنراهم تارة يندفعون بدولهم إلى ساحة النضال القومي اندفاعأ يبدو كما لو كان قد ألغى نهائياً القيود الاقليمية ، فيثيرون بهذا موجات طاغية من الآمال القومية لدى الجماهير العربية . غير ان للقيود الاقليمية مدى لا يمكن تجاوزه فلا تلبث أن تشدهم إلى مسؤولياتهم " الدستورية " . وينحسر المد القومي بالرغم من نوايا الحاكمين . ويغضب بعض الذين لا يجيدون غير الغضب لأن تلك " أخي " مواقف متناقضة ومترددة وغيرمعقولة. ولكن الغضب هنا هو غير المعقول لأنه يتجاهل التناقض الموضوعي الكامن وراء المواقف المترددة بين ما تقتضيه الحركة القومية وما تقدر عليه السياسة الاقليمية .

ثم ،

18- إذا كان من السهل علينا أن ندرك ان النصر أو الهزيمة في النضال القومي ضد الصهيونية والاستعمار متوقف على انتهاج الاسلوب العلمي في السياسة العربية ، وان الاسلوب العلمي يتطلب ان تقوم عليه منظمة سياسية تنطلق من مبادىء محددة (نظرية) وتلتزم تخطيطأ طويل المدى للوصول إلى غاياتها (استراتيجية) وتضبط حركة المناضلين في كل المواقع وتقودها بحيث تصب في الخط السياسي الذي تجسده ، فان أعداء أمتنا يدركونه بسهولة مماثلة . وكما ندرك نحن ان التجزئة وما تجسده من مصالح إقليمية تقوم حائلاً دون وجود هذه السياسة العربية العلمية ، أي حائلأ دون أن تتوافر للأمة العربية المقدرة على سحق الصهيونية والاستعمار فان أعداء أمتنا يدركون هذا أيضاً . من هنا يمكن القول بأن دعم التجزئة والاقليمية في الوطن العربي يكون جانباً أساسياً من استراتيجية القوى المعادية لأمتنا . أي اننا لا نواجه التجزئة والاقليمية مواجهة تتوقف نتيجتها على مدى مقاومة عوامل الانفصال على عوامل الوحدة ، ولا على مقدرتنا على اقناع القادة في الدول الاقليمية بوحدة المصير، ولا حتى على اقتناع هؤلاء القادة أو بعضهم بل ثمة قوة ثالثة ونشيطة تحاول بكل وسيلة مادية واقتصادية وسياسية وفكرية وثقافية حماية التجزئة ودعم الاقليمية ضد الحركة القومية. انها ذات الصهيونية والاستعمار. لأنهم يعلمون كما نعلم إذا كانت التجزئة تساوي الفشل فإن الوحدة تساوي النصر. ان هذا يفسر لنا ذلك الاعلان المتبجح الذي تأخذ به الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها مسؤولية حماية استقلال وحدود بعض الدول العربية. ان هذا الاعلان لا يقل- على أي وجه - عن إعلان حرب أمريكية طويلة المدى ضد الأمة . اننا نقول هذا للذين لا يعدون للحرب إلا بعد أن يصبحوا من ضحاياها. ولا يعرفون المخاطر إلا بعد أن تقتحم مواقعهم . ان حماية استقلال أية دولة عربية ضد أي عدوان استعماري أمر لا شك في انه واجب قومي بحكم ان أية دولة عربية تقوم على جزء من الوطن العربي وتضم جزءاً من جماهير الأمة العربية . ولكن الاستعمار هنا هو الذي يعلن هذه الحماية، ضد من؟ ضد الوحدة. ضد الحركة القومية. انه يريد أن يقول ببساطة : لا وحدة عربية. ولو ان أية دولة عربية " إقليمية" كانت قادرة في الوقت ذاته على أن تكون دولة عربية " قومية " لاعتبرت نفسها- بهذا الاعلان- في حالة حرب مع الولايات المتحدة الامريكية ولأعدت للصراع الطويل استراتيجيته الطويلة. ولكنها لا تقدر أن تكون لانها لا تستطيع أن تفلت من طبيعتها كتجسيد للتجزئة. إن هذه الحماية وان كانت حرباً ضد الأمة العربية تناهضها الحركة القومية ويستنكرها من ينتمون اليها من الحكام العرب وهو أقصى ما يستطيعون لا تستطيع الدول الاقليمية أن تجسد فيها عدوانأ على استقلالها فهي تقبلها ولو قبولاً صامتاً .

19- لعل كل هذا أن يكون كافياً لنعرف ان ثمة عقبات حقيقية تقوم حائلاً دون أن تتوافر للدول العربية المقدرة على النصر في المعارك القومية. وان الأجيال الفاشلة من الساسة العرب الذين حاولوا النصر فلم يلاقوا سوى الهزيمة كانوا ضحايا ظروف أقوى من ارادتهم فهم يستحقون الرثاء أكثر مما يستحقون الاتهام فقد حاولوا أن يستولدوا النصر من دولة عقيمة والعقم عذر مقبول لعدم الاخصاب .

هل هذا دفاع عن الدول الاقليمية عن طريق تبرير فشلها ؟.

أبدا اننا حتى لا نخاطبها بهذا الحديث . وانما نقول عنها انها عاجزة عن أن تعطي الجماهير العربية النصر الذي تريده لأن ما تريده الجماهير العربية يتجاوز طاقة الدول العربية . ان هذا يعني تماماً انها تفتقد حتى مبرر الوجود ولكن ليس هذا موضوع حديثنا إذ ليست غايتنا "محاكمة" الدول العربية. انما حديثنا عن " وحدة القوى العربية " وعلاقتها بالنصر والهزيمة ، فغايتنا- إذن- أن نجمع من الدراسة الموضوعية لأسباب الهزيمة ما نقطع به على القوى العربية التقدمية طريق الهروب من مواجهة مسؤولياتها القومية ، وأن نكشف سذاجة وسخافة- اختفاء بعض تلك القوى وراء الاتهامات التي احترفت توجيهها إلى الدول العربية وحكامها ، اننا نقول بمنتهى الوضوح ان الذين يسندون مسؤولية هزائم الأمة العربية إلى هذا أو ذاك من حكام الدول العربية لا يفعلون شيئاً أكثرمن فضح مواقفهم الاقليمية التي يحاولون إخفاءها تحت ستار الصراخ باسم القومية. إذ ان تحميل الدول العربية الاقليمية مسؤولية الفشل في المعارك القومية يخفي وراءه اقتناعاً ذاتياً بمقدرة الدول العربية الاقليمية على النجاح في النضال القومي. وتلك اقليمية عتيدة ولو علقت موقفها على ذلك الحرف الذي لا معنى له : " لو ". لو ماذا ؟ - نحن لا ندري ولكنهم يرددون: لو تغير النظام لو تغير الحكام لو صدقت النوايا الخ أما نحن فنقول : لا، ليس السبب الأساسي لعجز الدول العربية عن النصر في الصراع القومي ضد الصهيونية والامبريالية أن بعض النظم فيها رجعية، أو ان بعض الحكام متخاذلون ، أو ان بعض النوايا غير صادقة الخ انما السبب الأساسي هو أنها دول إقليمية ولا تستطيع بذاتها إلا أن تكون دولاً إقليمية تفكيراً وتدبيراً وحركة. وهذا يكفي لعجزها عن تحقيق النصر في المعارك القومية .

لا حيلة للدول العربية في هذا، ولا جدوى من المغالطة فيه . وعلى القوى العربية التقدمية أن تواجه مسؤوليتها بصدق ورجولة ان كانت حقاً قوى ، وعربية ، وتقدمية. والرجولة هنا تنفي الطفولة السياسية التي تدين الالتقاء أو التقارب أو التنسيق أو التعاون بين من يريد أو من يقدر من الدول العربية .

أن هذه الصيغ من العمل السياسي المشترك هي أقصى ما تسمح به طبيعة الدول الاقليمية فإدانته تمثل رفضأ لما هو ممكن بالنسبة إلى تلك الدول وتطلعاً إلى ما هو مستحيل عليها ، وتلك مثالية كأحلام الأطفال .

أجدر بالقوى العربية التقدمية ان كانت حقأ قوى ، وعربية ، وتقدمية ان تعترف- ولو احتراماً لأرواح شهداء 5 يونيو (حزيران) 1967- بانها بقدر ما أضاعت من وقت وجهد وهي تبحث عن وحدتها المفتقدة قد شلت مقدرة الأمة العربية على الدفاع عن وجودها أمام العدوان الصهيوني فمكنت قوى العدوان من النصر. وانها بقدر ما تخلت عن حقها وحدها في قيادة النضال القومي قد أسهمت في الهزيمة. ذلك لأنه إذا كانت القوى العربية التقدمية هي أول من يسأل عن الهزيمة التي وقعت فلأنها كانت قادرة على النصر الذي ضاع ، ولا تزال قادرة على أن تحقق من قلب الهزيمة العربية نصراً عربياً فهي- إذن- مسؤولة عنه.

كيف؟.

كيف وحدة القوى العربية التقدمية

-6-

وحدة القوى..

19- إذا كان تعدد الدول العربية يحول بحكم طبيعتها الدستورية والدولية دون توافر استراتيجية سياسية واحدة تلتزم بها الحكومات العربية ، وهو ما يقوم مبرراً موضوعياً لفشل المحاولات الرسمية في الوصول إلى هذا الاسلوب العلمي للسياسة العربية ، فان مثل هذا المبرر غير قائم على مستوى النضال الجماهيري . وطبيعي ان انعدام مبرر الفشل يحمّل الفاشلين مسؤولية العجز عن بلوغ غايتهم خاصة إذا كانوا واعين على هذه الغاية ولا يكفون عن الدعوة اليها . والواقع انه منذ سنين سابقة على 5 يونيو (حزيران) 1967 والحركات الجماهيرية في الوطن العربي تحاول أن تجد صيغة لتوحيد جهودها. وقد أصبحت تلك المحاولات ملحة على اثر هزيمة سبتمبر (ايلول)

1961 عندما اغتصب الانفصاليون الاقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة أمام جماهير غاضبة ولكن عاجزة عن المقاومة . لقد ثبت حينئذ ان وحدة الجماهير هي الضمان الأول لحماية أي انتصار عربي . وعندما استطاعت بعض المنظمات أن تصل إلى السلطة في العراق وسورية باسم الوحدة العربية قامت محاولة لتكوين قيادة سياسية تتم في ظلها الوحدة الثلاثية بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق وسورية . غير ان فشل مباحثات الوحدة الثلاثية في ابريل (نيسان) 1963 قد وضع حداً لتلك المحاولة . عندئذ خرجت من القاهرة في خريف 1963 دعوة الى القوى الجماهيرية العربية بأن تتولى مسؤولياتها التاريخية من خلال تلك الصيغة التي عرفت باسم "الحركة العربية الواحدة " وبالرغم من ان تلك الصيغة التي كانت تتضمن أكبر قدر ممكن -حينئذ- من الوضوح والتحديد، وبالرغم من كل الجهود الفكرية والدعائية الجادة التي بذلت من أجل تحديدها فإن الذين تبنوها لم يعرفوا كيف يجتازون نقطة البداية اليها : اللقاء الأول . وتعثرت القوى القومية قبل أن تخطو الخطوة الأولى فبقيت الدعوة إلى الحركة العربية الواحدة قائمة لا تتقدم خطوة .

كان طبيعياً أن يتيح ذلك العجز عن التقدم فرصاً لدعوات التراجع . ونسي كثيرون ان دعوة الحركة العربية الواحدة كانت درساً ، وخلاصة أفرزتها تجربة النضال القومي بكل انتصاراته وانتكاساته، فاتخذوا من الصعوبات التي قامت في طريقها " ومن تردد القوى القومية أمام تلك الصعوبات، سبباً لادانتها بدلأ من أن يتخذوا من الصعوبات سبباً لمزيد من الجهد لتحقيقها . وإلى ان حلت بنا هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 كانت الجماهير العربية تتأمل بعجب لا اعجاب فيه فيضأ من الصيغ المبتكرة لوحدة النضال الجماهيري في الوطن العربي ، من أول الالتقاء "الأخوي" وتبادل النشرات الثقافية بين المنظمات الاقليمية إلى جبهة عربية بين القوى التقدمية ، إلى وحدة القوى الاشتراكية ، إلى " وحدة القوى العربية القومية " تلك الصيغة التي نحن مشغولون بالحديث عنها الان ، ربما لانها سبقت الهزيمة ثم بقيت بعدها ، وربما لانها إذ تتضمن " الوحدة " بدلاً من مجرد الالتقاء تغري بأن تكون مدخلاً إلى الحل الصحيح .

على أي حال فليست العبرة بالكلمات والعناوين ، ولكن العبرة بما نعنيه بالكلمات التي نستعملها. إذ بالرغم من اننا لسنا في برج بابل بل نحن نتكلم لغة واحدة فاننا نتحدث كثيرأ ثم لا نتفق. بدليل ان كل الذين ابتكروا الصيغ التي دعوا اليها لم يستطيعوا أن يتقدموا خطوة إلى تحقيقها. والمثل المفجع لهذا هو ما تم قبيل الهزيمة مباشرة فيما أسمى " بندوة الاشتراكيين العرب " التي انعقدت في ضيافة حكومة الجزائر. لقد اثبتت انه حتى عندما يجتمع عدد محدود من أشخاص مختارين في قاعة مغلقة ليتحاوروا حول كلمة واحدة (الاشتراكية) ووراءها تراث فكري وتطبيقي عالمي لا ينتهون حتى إلى الحفاظ على مظاهر " الأخوة " التي يتبادلونها قبل جلسة الافتتاح ، فيخرجون أكثر فرقة مما كانوا في البداية .

هل معنى هذا اننا لو حددنا معاني للكلمات ، ولو بإنشاء قاموس سياسي " عربي- عربي " نستطيع أن نحقق وحدة القوى العربية التقدمية ؟.. لا، لان الاختلاف على دلالة الكلمات قد يكون جهلآ في بعض الأوقات ولكنه في أغلب الأوقات افتعال عامد بقصد فرض مضامين فكرية أو اجتماعية أو سياسية خاصة على الحركة القومية . ان الحوار الذي لا يلتقي يعبرعن صراع لا لقاء فيه . فمثلاً لا يمكن أن يختلف اثنان في دلالة كلمة " الوحدة " على الأقل فيما تعنيه من نفي التعدد . ومع هذا فها نحن نتحدث حديثاً طويلاً عن وحدة " القوى " ، والقوى جمع يفيد التعدد. ومع انه من البدهي ان الجمع بين " الكلمتين " في حديث عن " وحدة القوى " يعني انه حديث عن " حركة " تتجاوز التعدد إلى الوحدة فان هذا أمر غير مسلم به من الجميع . فكثيرون لا يفهمون من وحدة القوى إلا انها تحرك قوى متعددة في اتجاه واحد . ونحن نتحدث عن القوى "العربية " وهو ما يعنى بداهة انها ليست قوى " اقليمية "، ومع هذا فإن كثيرين لا يفهمون أي معنى لكلمة "العربية " هذه الا انها تعني جموع القوى الاقليمية في الوطن العربي . ولو استطعنا أن نتخطى-اتفاقاً كل هذا وأردنا أن نتحاور لنتفق على مفهوم " التقدمية " لمجرد أن ننتهي من معرفة من هم الذين يوجه اليهم نداء الوحدة ، لأضعنا أعمارنا حواراً في دوامة " البيزنطية الجديدة " . ولو أضعنا فعلاً بضع سنين في تلك الدوامة المدمرة ، ثم أفقنا فإذا بالأمة العربية وقد دفعت ثمنأ باهظأ لصبرها على سفسطة بعض المثقفين من أبنائها .

ومن المؤسف حقاً اننا - برغم كل شيء - غير قادرين على الكف عن الحديث ، مادامت القوى العربية التقدمية لا تزال غير قادرة على أن تتحول من قوة إلى حركة . ذلك لأنه إذا كان ، تاريخنا القريب قد علمنا اننا نضيع وقتاً ثميناً في الحوار بدون أن نتفق فقد علمنا، تاريخ الانسانية كله أن تجاوز الاتفاق الفكري إلى الممارسة العملية مغامرة مدمرة . كل ما نرجوه ان تكون الهزيمة قد أسهمت في تصحيح أفكارنا وتحديد مضامينها ودفعت بنا إلى المقدرة على الاتفاق، فلنحاول .

20 - ماذا تعني " الوحدة "، بالنسبة إلى القوى العربية التقدمية ؟ .

طبيعي أن يكون لكل متحدث تصور خاص لهذه الوحدة ، ولسنا نريد أن ننكر على أحد تصوره أو أن نفرض عليه تصوراً خاصأ بشرط ألا يحاول أحد أن يفرض تصوره علينا. وقد يبدو من المبالغة أن نقول ان هذا هو مفتاح الموقف كله. مفتاح الديمقراطية الذهبي . ومع هـذا فانا لا نشك لحظة في ان كل شيء متوقف عليه ، أي على قبول كل منا أن يحاور لا أن يملي ، أن يبحث عن الاتقاق لا أن يفرض شروطه . لو قبلنا هذا لوجدنا أنفسنا ملزمين بأن نبحث عن مقياس موضوعي لصيغه الوحدة ، أي مقياس لا يتوقف على أهوائنا. عندئذ تبدو المشكلة في منتهى البساطة . لاننا إذا كنا نبحث عن صيغة " لوحدة " القوى العربية التقدمية فانا لا نبحث عنها اعتباطاً بل لأن أمتنا العربية في حاجة اليها . أي ان " الوحدة " مطلوبة لتحقيق غاية . اننا نبحث عن " الوحدة " ، من حيث هي " أداة " لتحقيق غاية . ولما كانت مناسبة الأداة لتحقيق الغاية المستهدفة من ورائها مسألة موضوعية ، فإن مصدر الإجابة الصحيحة السؤال : كيف تكون وحدة القوى العربية التقدمية هي الإجابة على السؤال : لماذا وحدة القوى العربية التقدمية . ولسنا نعتقد ان هناك محكاً " للاخلاص " في البحث عن صيغة الوحدة أكثر صدقاً من هذا المقياس . من أجل هذا بدأنا هذا الحديث بالإجابة على السؤال " لماذا " وحدة القوى العربية التقدمية ،ووصلنا فيه إلى إجابة مستمدة من أكثر تجاربنا مرارة . فلنتذكر ماقلنا .

لقد انتهينا إلى ان ثمة " ثغرة " في السياسة العربية تحول بينها وبين أن تتكامل لها عناصر الاسلوب العلمي في مواجهة القوى المعادية . وان تلك الثغرة هـي انعدام وحدة الاستراتيجية بالرغم من توافر الإمكانيات الحركية في الوطن العربي . وعرفنا أن وحدة الاستراتيجية المفتقدة لا تتوافر إلا بوحدة التنظيم ووحدة القيادة . ثم رأينا كيف ان الطبيعة الاقليمية المستقلة للدول العربية تحول دون إمكان تخطي تلك الثغرة على المستوى الرسمي فنحن نبحث عن إمكان تخطيها على المستوى الجماهيري .

إذن فنحن نبحث عن صيغة لوحدة النضال الجماهيري تتوافر لها المقدرة غير المتوافرة على المستوى الرسمي . نبحث عن صيغة توفر لنضال الجماهير العربية وحدة الاستراتيجية طويلة المدى . وقد عرفنا ان هذا يتطلب وحدة التنظيم ووحدة القيادة . وهكذا نرى ان الإجابة على "كيف" يجب أن تكون القوى العربية التقدمية إجابة بسيطة ، تكون بقيام تنظيم قومي ذي قيادة عربية واحدة يضم كل القوى العربية التقدمية ويقود حركتها على المستوى التكتيكي طبقاً لاستراتيجية نضال قومي تصل بين واقع الأمة العربية وغايتها البعيدة ، ويدير المعارك ضد كل القوى التي تقف عقبة سلبية أو إيجابية على الطريق إلى تلك الغاية .

فلماذا تغيب هذه الإجابة البسيطة عن كثير من الذين يبحثون- جادين- عن الصيغة الصحيحة لوحدة القوى العربية التقدمية ؟ .

ثمة عوامل كثيرة، منها ما يتصل بالصيغة ذاتها ومنها ما يتصل بمضمونها. تختلط جميعاً بفكرة التنظيم القومي وتثير حوله كثيراً من الضباب فلا يهتدي اليه الباحثون. أما عن العوامل التي تتصل بالمضمون فسنتحدث فيها بعد قليل . ونتحدث الآن عما يتصل بالصيغة .

21- يقال ان " وحدة " القوى العربية التقدمية تتم على مستويين . أولهما الوحدة الوطنية للقوى التقدمية ثم- ثانيهما - الالتقاء أو التنسيق أو التحالف بين تلك القوى على المستوى العربي. عظيم. فلن يسىء أي قومي أن يرى اليوم الذي تدفن فيه كل تلك " الشلل " التي تسمي نفسها حركات أو أحزاباً أو قوى وأن يرى الجماهير العربية في كل قطر موحدة على أهدافها . ولكن ما الذي سينتج عن الوحدة الجماهيرية في أي اقليم ، أو ما تسمى " الوحدة الوطنية ". انها لن تزيد عن أن تكون تنظيماً للقاعدة الشعبية في الدولة الاقليمية ، أي تنظيماً اقليميأ ولو كان تنظيماً واحداً. وهكذا تنشأ أسيرة ذات الاطار الذي يحول بين الدول العربية وبين وحدة الاستراتيجية في السياسة الرسمية . انها تستطيع أن تلتقي وأن تتبادل الخبرات والنشرات وأن تتزاور وأن تنسق بين مواقفها التكتيكية ، ولكنها ستظل في مواجهة بعضها البعض منظمات مستقلة التنظيم مستقلة القيادة مستقلة التخطيط مستقلة الكوادر مستقلة الغايات ولو كان ثمة قدر مشترك من غاياتها. وسيظل التقاؤها وتعاونها وتنسيقها متوقفاً على إرادة كل منظمة على حدة ونظرتها الاقليمية حتى للقضايا ذات السمة القومية . وفي كل الحالات لن تستطيع المنظمات الاقليمية أن تحقق فيما بينها وحدة الاستراتيجية للنضال العربي ولو رغبت في هذا.

ان كل ما يمكن الرد به على هذا هو العودة إلى اتهام الحكام بأنهم غير قوميين وان المنظمة الجماهيرية قومية وحدوية حتى النخاع . وهو أمر تدعيه كل " الشلل " ولا نقول المنظمات في أغلب البلاد العربية . وحرصاً منا على أن يبقى الحديث في حدوده فانا لن نقول لهم ان كنتم حقاً قوميين فكيف قبلتم الحصر الاقليمي وأتخذتم من الحدود الاقليمية حدوداً لمنظماتكم ، بل نقول لهم: ما الذي في طاقتكم- أقصى طاقتكم- أن تفعلوه ؟ ماهي المحصلة النهائية لذلك النشاط اليومي الذي تدعون الجماهير اليه؟ ما هو النصر الذي يمثل غاية مخططاتكم الاقليمية؟ أليس هو الاستيلاء على السلطة في الدولة الاقليمية، أن تصبحوا حكاماً ؟ عندئذ ستجسدون ، وتمثلون الدولة الاقليمية- أي ان أقصى نجاح تحققه منظمة اقليمية جماهيرية هو أن تتحول إلى منظمة اقليمية سياسية : إلى دولة .

وحتى لا يغضب بعض الذين يسمون أنفسهم قوى قومية ، ويقدمون من صدق نواياهم ضماناً للأمة العربية ، نقول انكم غير متهمين فيما تعتقدون . والواقع ان تلك القواعد الجماهيرية الممزقة إلى شلل ومنظمات إقليمية تكوّن القدر الأكبر من القواعد الجماهيرية القومية فلا نستطيع أن نتهم إخلاصها القومي . ولكن ألم نقل من قبل أن المشكلة ليست مشكلة إخلاص أو خيانة ، بقدر ما هي مشكلة معطيات موضوعية لا تجدي حيالها مجرد النوايا . ومن تلك المعطيات ان الحركات والتنظيمات والأحزاب الاقليمية ليست أكثر من قاعدة الدولة الاقليمية ، وهي عادة أضعف من قيادة الدولة لانها- عادة أيضاً ممزقة . ولكن وحدتها " الوطنية " لن تمنحها مقدرة نضالية أقوى من الدولة الاقليمية . لأنها عندما تصل إلى أن تكون أقوى من الدولة تستولي على السلطة تصبح هي الدولة الاقليمية ذاتها . وكل تلك معارك " داخلية " إذا انتهت إلى أن يتولى بعض القوميين الحكم فإن الدولة قد تصبح أقل اضراراً بالقضية القومية ولكن هذا لايغير من الأمر الذي نتحدث عنه شيئاً : استحالة وحدة استراتيجية النضال العربي عن طريق الالتقاء بين المنظمات السياسية الاقليمية .

هل هذا كل شي بالنسبة لصيغة اللقاء بين المنظمات الاقليمية ؟.

لا فنحن لم نقل الا انها لاتتقدم بناخطوة نحو حل مشكلة وحدة القوى العربية التقدمية . وتلك نصف الحقيقة. أما النصف الاخر فهو انها قد تكون معوقة لحل المشكلة التي نتحدث عنها . ذلك لأن التقاءها وتعاونها الخ سلاح ذو حدين . حده الإيجابي انه يساعد على اضعاف العزلة بين الجماهير العربية وبالتالي يخلخل الرواسب الاقليمية ويضعف مقاومة عوامل الانفصال . أما حدها السلبي- الخطير- فهو أن يعوق الوحدة الجماهيرية القومية بما يفعله من آمال " وحدوية " يعلقها على حده الايجابي- نريد أن نقول ان خطر الالتقاء والتقارب بين المنظمات الاقليمية يكمن في تقديمه إلى الجماهير العربية كبديل عن تنظيمها القومي . ولان المنظمات الاقليمية الجماهيرية تستطيع وهي بعيدة عن مراكز السلطة أي عن الالتزام المباشر بالاطار الدستوري للدولة الاقليمية أن تتحدث بألفاظ كبيرة عن القومية وعن الوحدة فانها تثير قدرأ كبيرآ من الضباب الذي يحجب عن الجماهير رؤية طريقها الصحيح، وتثير قدرأ كبيرآ من الضجيج " القومي " الذي يسهم مساهمة بالغة في تجريد الحديث عن الوحدة من الوضوح فلا يفهم أحد ما يقوله الآخر فلا يلتقيان.

كل هذا ونحن لا نتهم أحدأ في نواياه ، ولا ننكر على أحد ما يزعمه من انه قومي وحدوي يسعى بكل " اخلاص " إلى وحدة القوى العربية التقدمية في تنظيمها القومي الواحد . فلنختبر هذا الادعاء اختباراً دقيقاً . معروف ان التنظيم القومي سيكون موحداً لقيادة متعددة الفروع في الأقاليم. أي ان التنظيم القومي لن يلغي وحدة الجماهير في أي اقليم عربي . ومن هنا فهو لايناقض هذه الوحدة . ان الوضع التنظيمي للقواعد الجماهيرية في أي بلد عربي لن يتغير كثيراً عندما تكون منتمية إلى تنظيم قومي بدلآ من انتمائها إلى منظمة اقليمية . والمهمات الحركية حتى داخل التنظيم القومي ستكون مقسمة على القواعد الجماهيرية في مواقعها حيث تكون . من أين - اذن- يأتي التناقض الذي يبقي على المنظمات الاقليمية ؟ من نقطة واحدة . ان كل المنظمات الاقليمية ذات قيادات، والتنظيم القومي لا يسمح بتعدد القيادات . وهكذا تتبلور المسألة كلها في أن مجموعة من أكثر الناس كلاماً عن القومية والاخلاص الخ لا يريدون أن يفقدوا مراكزهم القيادية في "شللهم" أو " أحزابهم " بالرغم من اشتراكهم النشيط في الدعوة إلى وحدة القوى العربية القومية، انهم عندما يواجهون بالحل الصحيح ( التنظيم القومي) لا ينكرونه ولكنهم لا يكفون عن ابتكار الاعذار للابقاء على التمزق الجماهيري ليبقوا " زعماء " كما يعتقدون في أنفسهم . وعندما يلتقون في حوار مشترك حول وحدة القوى العربية التقدمية أو الحركة العربية الواحدة ، أو التنظيم القومي يتحدث كل منهم منطلقاً من افتراض يخفيه هو ان مركزه كقيادة في الصيغة الجديدة ليست محل حديث . وطبيعي ان أى تنظيم قومي لن تتسع قيادته لكل الطامعين فيها ومن هـنا لا يلتقون. ولما كانت أسباب الخلاف مواقف شخصية غير معلنة ، فان تبريره يتحول إلى سباب شخصي في جلسات خاصة .

وهكذا لا يعتبر التقاء المنظمات الاقليمية طريقاً مسدوداً إلى وحدة القوى العربية التقدمية فحسب بل ان قبولها " كمنظمات " في أي حوار حول وحدة القوى العربية التقدمية لن يؤدي إلا إلى إثارة

الاضطراب الفكري و اختلاط المفاهيم والنزول بالحديث إلى حد المهاترات .

22- غير اننا لا يمكن الا أن نشيد بصيغة قائمة من التقاء وتعاون وتحالف بعض القوى الجماهيرية الاقليمية ودورها البناء في اضعاف آثار التجزئة وتمهيد الأرض لوحدة القوى العربية التقدمية. انها تلك الصيغة التي تنشط في اطارها " الاتحادات " المهنية في الوطن العربي (اتحاد المحامين العرب، اتحاد العمال العرب، اتحاد المهندسين العرب... الخ) ان تلك الاتحادات تؤدي دورها القومي بدون ضجيج ولكن باصرار. وتؤثر في الحد من آثار العزلة التي فرضتها التجزئة تأثيراً لا يمكن التهوين من شأنه وان كان يتم بدون ادعاء . بدون ادعاء من تلك الاتحادات بانها بديل عن وحدة القوى العربية التقدمية في تنظيم قومي . انها تسهم في التمهيد لهذه الوحدة ليكون مولد التنظيم القومي ميلاداً سهلاً وصحياً معاً ، بما تقوم عليه من لقاءات ودراسات عربية مشتركة تزيل الغربة الفكرية بين أعضائها. وهذا نشاط بنّاء ، بل لعله أن يكون أكثر النشاطات الجماهيرية فاعلية على الطريق القومي- حالياً - بالرغم من كل الصعوبات التي يلاقيها والآثار "المحدودة " التي يحدثها. ان ميزته انه وان كان نشاطاً محدود الأثر إلا انه في الاتجاه الصحيح، وقابل للتراكم والنمو. ولسنا نتجنى على أحد أو نتحيز لأحد إذا قلنا ان ما قام به اتحاد المحامين العرب مثلأ في السنين القليلة التي مضت منذ مولده أكثر إيجابية - على الخط القومي- من كل ما قامت به الشلل والحركات والأحزاب الاقليمية في الربع قرن الأخير. ويرجع هذا بصفة أساسية إلى انه بينما يحقق الالتقاء والتعاون والاتحاد بين القوى العربية الاجتماعية القدر الايجابي المتوقع من صيغة الالتقاء والتعاون العربي فإنه مطهر من الخطر الذي ينطوي عليه التقاء وتعاون وتحالف القوى السياسية . لأن تلك الاتحادات المهنية لا تزعم ولا تقدم نفسها إلى الجماهير العربية كبديل عن وحدة القوى العربية التقدمية ، بل تزيد فتجعل من الدعوة إلى تلك الوحدة ، ودراستها ، أحد الاتجاهات الرئيسية والثابتة لنشاطها . أي أنها تحقق أقصى ما يمكن أن تحققه صيغة الالتقاء والتعاون والتحالف بين القوى العربية بدون أن تقف عقبة في سبيل ما يجب أن يكون . وهو دور يستحق الاشادة ما دام محتفظاً بتلك الخصائص البنّاءة .

نحن إذن لا نعترض على الصيغ تعنتاً بل ندرسها من حيث صلاحيتها لتحقيق الغاية من " وحدة " القوى العربية التقدمية .

فماذا عن الجبهة ؟

23- صيغة الجبهة صيغة تقليدية في النضال الجماهيري . وهي كفيلة بأن توفر أكبر قدر من التعاون المرحلي بين القوى المتعددة . وهي تحل مشكلة " الزعامة " لانها تتضمن عادة " قيادة مشتركة " أو " لجنة اتصال " تضم ممثلين لكل من المنظمات المتحالفة بدون المساس بالوجود المستقل لكل منظمة قيادتها .

ولان الجبهة صيغة تقليدية فان لها " تقاليد" أرستها ممارسة النشاط الجماهيري على المستوى الاقليمي وعلى المستوى القومي ، وعلى المستوى العالمي جميعاً . وليس المطلوب من الذين يدعون إلى وحدة القوى العربية القومية عن طريق تكوين جبهة بينها إلا أن يعترفوا بهذه التقاليد التي تشكل قوانين العمل الجبهوي. أهم هذه القوانين هو ما يعرف بالصراع عن طريق الوحدة، وهو قائم على أساس ان أية منظمة جماهيرية جادة لها هدف ثابت هو استقطاب الجماهير إلى جانب الغايات التي تقوم على النضال من أجلها . وهذا يعني ان ثمة معركة أساسية بين كل المنظمات التي تعمل في حقل اجتماعي واحد من أجل تصفية المنظمات الأخرى عن طريق استقطاب قواعدها الجماهيرية.

فهي في صراع يبرر وجودها ذاته فلا تستطيع أن تتنازل عنه. ولكن يحدث أن تواجه المنظمات المتصارعة خطراً مشتركاً وتجد ان مصلحتها جميعاً في أن توحّد جهودها لرد هذا الخطر عندئذ تقدم لها صيغة العمل الجبهوي أكبر امكانيات النصر . ومن هنا تبرز القوانين الثلاثة التي تحكم العمل خلال جبهة :

أولهما، ان الجبهة لا تقوم إلا مرحلياً ، أي تنطوي على اتفاق ضمني على العودة إلى الفرقة. ثانيهما ، ان كل طرف في الجبهة. يجهز نفسه لاستئناف الصراع بعد تحقيق النصر المشترك.

ثالثهما ، ان نشاط كل طرف في الجبهة يدور على محورين : محور التعاون ضد العدو المشترك، ومحور النمو على حساب الأطراف الأخرى بحيث يكون قادراً على أن يضيف النصر الذي حققتة الجبهة إلى رصيده الشعبي الخاص . أي أن كل طرف يسعى حتى في ساحة النضال المشتركة إلى تصفية الأطراف الأخرى لحسابه .

لم يحدث قط ان أفلت أي عمل جبهوي من حكم هذه القوانين . وكل المنظمات المتمرسة بالنضال الجماهيري تسعى إلى تكوين جبهات مع القوى الأخرى لتضرب أكثر من عصفور- بحجر واحد: تستكمل بالتحالف مقدرتها على تحقيق الغاية المشتركة ، وتستكمل عن طريق التحالف مقدرتها على تصفية القوى الأخرى . غير ان هذا يتوقف بطبيعة الحال على قوتها النسبية . لهذا تكون القيادة الفعلية في كل جبهة عادة لإحدى المنظمات المتحالفة ، وعلى وجه التحديد الأكثرعلماً بقوانين الصراع من خلال التحالف . وكثيرآ ما تشعر بعض المنظمات المتحالفة في جبهة ما يدبر ضدها على مستوى القواعد فتنفصل .- والذين لا ينتبهون اليه تتم تصفيتهم عن طريق امتصاص قواعدهم فتنفصل القيادات بعد أن تكون فقدت أغلب قواعدها . وفي كل الحالات يخوض المؤتلفون في جبهة صراعاً مريراً بعضهم ضد البعض الآخر إما بعد الانفصال أو بعد تحقيق النصر المرحلي، ضد العدو المشترك . عندئذ - وحتى في أثناء قيام الجبهة- لا تكف الأطراف الضعيفة عن اتهام الرفاق الجبهويين بالانتهازية والغدر والحزبية .. الخ . وهو اتهام لا يدل على شيء أكثر من ان تلك الأطراف الغائبة قد دخلت تجربة أكبر من مستوى علمها بقوانين الصراع الجماهيري. أي لا يدل على أكثر من انها " تستحق " أن تصفى فعلاً.

في هذه الحدود ليس هناك ما يمنع من أن تقوم جبهة بين كثير من المنظمات الجماهيرية في الوطن العربي . بالعكس أن تنوع المعارك التي تدور على الأرض العربية والخطر الاستعماري والصهيوني الذي يهدد الجميع يبرران التقاء تلك المنظمات في جبهة واحدة .

ولكن الخطأ يأتي عندما نتصور ان تلك الصيغة هي البديل عن وحدة القوى العربية التقدمية في تنظيم قومي او انها طريق إلى تذويب كل المنظمات في منظمة قومية واحدة . ذلك لاننا عندئذ نتجاهل قوانين العمل الجبهوي وضرورة أن تتم تصفية الصيغة الجبهوية لحساب أحد أطرافها. ومن وجهة نظر قومية لا مانع من الالتحام في جبهة مع كل القوى التي تريد بشرط أن تكون القيادة فيها للقوى العربية التقدمية ، وهو ما يعني أن تكون تلك القوى طرفأ واحدأ في الجبهة، أي أن تكون قد حققت وحدتها من قبل . وهكذا نرى أن تكوين جبهة بين المنظمات العربية لمواجهة الخطر المشترك على أن يكون النصر الذي تحققه نصراً " عربياً " ليس بديلاً عن وحدة القوى العربية التقدمية بل أحد أسباب ضرورة تحقيقها. ولا شك في ان تحقيق هذه الوحدة في تنظيم قومي ستمكن ذلك التنظيم من الالتقاء في جبهات نضالية ضد الاستعمار مع الذين يريدون التحرر ولا يريدون الوحدة أو الاشتراكية إلى أن يتم النصر في معركة الحرية ، ومع الذين يريدون الاشتراكية ولا يريدون الوحدة إلى أن يتم النصر في معركة الغاء الاستغلال في الأقاليم ، ومع الذين يريدون الوحدة ولا يريدون الاشتراكية إلى أن تتم الوحدة . ولكن لا شك أيضاً في ان التنظيم القومي سيلتزم قوانين العمل الجبهوي فلن يسمح لأحد بأن يصفيه تحت ستار النضال المشترك ، وستكون له مواقفه التكتيكية المناسبة بالنسبة إلى كل القوى التي تقف معه أو تقف ضده طبقاً لا ستراتيجيته القومية .

من هنا نرى بوضوح كما نأمل ان صيغة الجبهة ، بالرغم من فائدتها في مواجهة مواقف مرحلية محدودة ، لا تصلح ان تكون بديلاً عن وحدة القوى العربية التقدمية في تنظيم واحد ذي قيادة واحدة ، لأن طبيعتها المرحلية من ناحية لا تسمح بالتزام استراتيجي طويل المدى وهو ما نبحث عن صيغة تحققه ، ولأن الصراع الداخلي بين أطرافها من ناحية ثانية لا يسمح بحشد كل الامكانيات المتاحة من أجل الغاية المشتركة ، ولأن تعددها والصراع بينها على أهداف مختلفة لا يوفر لها من ناحية ثالثة وحدة النظرية التي لا تقوم الوحدة الحركية بدونها . انها باختصار الصيغة الجماهيرية المقابلة لاتفاقيات الدفاع المشترك على المستوى الرسمي .

إذا كان كل هذا غير كاف لاقتناعنا بأن التنظيم القومي هو صيغة " وحدة القوى العربية التقدمية " التي توفر لها المقدرة على انتهاج الاسلوب العلمي في نضالها القومي فلعلنا نقتنع عندما نعرف ماذا يعني أن تكون تلك القوى التي نتحدث عن وحدتها قوى " عربية " . أي لعل هويتها القومية أن تحدد صيغة وحدتها .

-7-

... القوى العربية

24 - منذ أمد بعيد تاهت الأنساب في الكثرة فلم يعد أحد يستطيع أن يسند عروبته إلى عرقه. وإلى أن تقوم دولة الوحدة العربية لا يستطيع أحد أن يثبت عروبته بجنسيته (هويته الرسمية) . فما الذي تعنيه العروبة إذن ؟ سكنى الوطن العربي ؟.. لا، فان الوطن العربي مقيمين وليسوا عرباً ، ولا يقبلون أن يكونواعرباً ، لانهم ينتمون إلى أمم وشعوب ودول أخرى وان أقاموا في وطننا العربي ضيوفاً أو غاصبين . ثم ان الوطن العربي ذاته ليس مرجع عروبته ما يحمله من معالم جغرافية أو طوبوغرافية ، فهو قطعة من الأرض تستمد عروبتها من مصدر غير طبيعتها المادية . لايبقى إلا أن يكون مصدر العروبة هو الانتماء إلى تلك الكتلة البشرية التي تكونت تاريخياً باسم الأمة العربية . فالوطن " عربي " من حيث هو وطن الأمة العربية . والقوى عربية من حيث هو قوة الأمة العربية . أي أن مقياس العروبة هو الانتماء القومي إلى الأمة العربية .

إذا صح هذا وهو صحيح فيما نعتقد - ترتبت عليه ثلات نتائج هامة :-

الأولى : ان الحوار حول وحدة القوى العربية التقدمية مع الذين ينكرون وجود الأمة العربية أو يدينون القومية ويعتبرون الحركات القومية افتعال " بورجوازي " رجعي... الحوار مع هؤلاء حول وحدة القوى العربية التقدمية مضيعة للوقت وعبث لا طائل ورائه ولا فائدة فيه . ليس معنى هذا الا فائدة في الحوار عامة مع هؤلاء ولكن معناه ان ثمة مستويات لا بد من الاتفاق فيها قبل أن يكون من المفيد ان نتحدث معهم أو اليهم عن وحدة القوى العربية التقدمية . لانهم اذ ينكرون الوجود القومي يجردون " القوى العربية " من أي مضمون فلا يؤدي الحوار معهم حول وحدة تلك القوى إلى أي اتفاق . وأي حديث جاد معهم يبدأ من وحدة القوى العربية سيكون مضطرأ - بحكم جديته- أن ينزل عن مستواه ليدور حول المنطلقات الأولى : الوجود القومي، والحركة القومية . أي انه لو كان حديثاً جاداً لتنحى منذ اللحظة الأولى عن الموضوع الذي يدور حديثنا الآن عنه .

الثانية: ان الحديث عن وحدة القوى " العربية " التقدمية يعني اننا نتحدث عن وحدة قوى أكثر تخصيصاً مما يتجاوز الأمة العربيه بشراً ووطناً . أكثر تخصيصاً من القوى " الافريقية " التقدمية ، ومن القوى " الاسلامية " التقدمية ، ومن القوى " العالمية " التقدمية... الخ. انه تخصيص وليس نفياً لأن الخاص لا ينفي العام . وهو تخصيص وليس نقضاً لأن الجزء لا يناقض الكل . فكوننا مشغولين بالحديث عن وحدة القوى " العربية " التقدمية لا يعني- مثلأ- اننا غير مهتمين بوحدة القوى التقدمية العالمية. ولو شئنا لتحدثنا عن تلك القوى وعن صيغة وحدتها حديثاً نحن في حاجة إليه بحكم ان أمتنا جزء مؤثر ومتأثر من العالم الذي تعيش فيه. ولكن قد اخترنا موضوع الحديث فأصبح من المهم- إذا كانت غايتنا ان يفهم بعضنا بعضاً - الا نخلط بين وحدة القوى العربية التقدمية وبين وحدة القوى التقدمية على المستوى العالمي ، أوحتى على مستوى العالم الثالث .

الثالثة : اننا عندما نتحدث عن وحدة القوى " العربية " التقدمية نتحدث عن قوى أكثر شمولاً من القوى التي تجمعها روابط أضيق من الرابطة القومية . أكثر شمولاً من القوى العائلية ، وأكثر شمولاً من القوى " الطبقية " وأكثر شمولاً من القوى في الأقاليم ... الخ . انه تعميم وليس نفياً لأن العام لا ينفي الخاص . وهو تعميم وليس نقضاً لأن الكل يشمل الجزء ولا ينقصه ، فكوننا مشغولين بالحديث عن وحدة القوى " العربية " التقدمية لا يعني على أي وجه اننا غير مهتمين بأي نوع من الوحدة بين القوى التقدمية على مستوى الأقاليم . ولو شئنا لتحدثنا عنها حديثاً نحن في حاجة إليه لنرى كيف ان وحدة القوى العربية التقدمية تتضمن في ذاتها وحدة القوى التقدمية في كل جزء من الوطن العربي . ولكنا قد اخترنا موضوع الحديث فأصبح من المهم- إذا كانت غايتنا أن يفهم بعضنا بعضاً ألا نخلط بين وحدة القوى العربية التقدمية وبين وحدة القوى في الاقاليم العربية .

هل هناك شيء أكثر بداهة من هذا ؟

ومع ذلك فان الخلط قائم على قدم وساق . ولان الامر يبدو لنا بدهياً فاننا لا نستطيع ان نأخذ الخلط فيه مأخذ البرىء . والواقع انه ليس بريئا. فكما نعلم ان الانتماء القومي ليس مجرد انتساب غير ذي مضمون الى امة ، فان كلاً من الانتماء الاممي ؤالانتماء الاقليمي غير مجرد من المضمون . ان الانتماء هنا يتضمن الولاء لتكوين بشري ذي مضامين اجتماعية واقتصادية وسياسية. والولاء يعني الالتزام بالانطلاق من تلك المضامين ، الى الغايات التي تحددها. فالقوى الاممية تستهدف غايات اممية . والقوى القومية تستهدف غايات قومية . والقوى الاقليمية تستهدف غايات اقليمية . وهكذا نرى اننا عندما نتحدث عن وحدة القوى " العربية " التقدمية نتحدث عن قوى ذات اطار نظري متميز بمنطلقاته وغاياته. وهو اطار لا بد ان يكون اشمل من المنطلقات والغايات الاقليمية وأخص من المنطلقات الأممية . فإذا كانت الوحدة لازمة لتوفير استراتيجية نضال هادف إلى غايات محددة ، فان صيغتها لا بد من أن تكون متفقة مع غاياتها وبالتالي متميزة على المستوى القومي عنها على المستوى الاممي أو الاقليمي .

من هذا يتضح انه عندما يحاول البعض عن طريق الحوار حول " وحدة " القوى العربية أن يعطيها صيغة أممية أو أقليمية فانه لا يفعل هذا لانه يجهل معاني الكلمات بل لانه يريد أن "يجر" القوى العربية عن طريق الوحدة معها إلى معارك مختلفة الساحات من أجل غايات مختلفة المضمون يحركها ولاء متباين المدى . و كما قلنا من قبل ليس ثمة ما يمنع تعاون القوى التقدمية على كل المستويات لتحقيق النصر ضد عدو مشترك . ولكن هذا سيكون تعاوناً مرحلياً بين قوى متميزة في معارك محدودة . وهو بعد تعاون لا معنى للبحث عنه في الوطن العربي إذا لم تكن القوى العربية التقدمية ذاتها قد تحولت إلى قوة نضالية منظمة أي إلا إذا حققت وحدتها . إذ حينئذ فقط تكون قادرة على أن تكون طرفاً فعالاً في تعاون مشترك من أجل النصر في معارك تتجاوز أو تضيق عن المستوى القومي ، طرفاً غير قابل للتصفية أو الانحراف من خلال التعاون. 25- ولكن ماذا يعني أن القوى التقدمية لاتكون " عربية " الا بولائها للأمة العربية ؟

عندما أراد ماركس وانجلز أن يعرفا الشيوعيين قالا في البيان الشيوعي الذي أصدراه سنة 1848 انهم أولئك الذين يمثلون الطبقة العاملة ككل بصرف النظر عن القومية . وهو تعريف دقيق وعلمي وحاسم يصلح أن يكون مثلأ يقتدى . وعليه نستطيع أن نعرف القوى " العربية " التقدمية بأنهم أولئك الذين يمثلون الأمة العربية ككل بصرف النظر عن الاقليمية . وطبيعي ان هذا لا يتوقف على الادعاء أو النوايا بل يتوقف - في حدود الحديث عن صيغة الوحدة على قبول أو رفض صيغة التنظيم الاقليمي .

طبقاً لهذا تكون وحدة القوى العربية التقدمية في تنظيم " قومي " هي التعبير الفعلي عن هويتها العربية ، وتفقد هذه الهوية بمجرد قبولها أن تجسد التجزئة في تنظيم " اقليمي " . أي أننا لو انطلقنافي البحث عن صيغة لوحدة القوى العربية التقدمية توفر لها المقدرة على انتهاج الاسلوب العلمي في نضالها، من هويتها " العربية " لاهتدينا الى التنظيم القومي صيغة لا بديل عنها. هذا اذا كنا نعني ما نقول عندما نصف القوى التي تهمنا وحدتها بانها قوى " عربية " .

ونحن نعنيه ونصر عليه .

ومع هذا فنحن لا نعني ولا نصر على وحدة " كل " القوى العربية ، أي كل القوى التي ترفض أن تجسد الاقليمية تنظيماً وتقبل أو تدعو إلى أو تحاول أن تتحرك من خلال تنظيم قومي . ذلك لأننا عندما نبحث عن طريق الى وحدة القوى العربية التقدمية لا نريد أن نلفق وحدة تنظيمية شكلية بين

قوى لا تتوافر لها وحدة النظرية والغايات . فقد سبق ان قلنا أننا نريد الوحدة لأنها لازمة لتوفير ذلك العنصر الأساسي من الاسلوب العلمي في النضال العربي ونعني به وحدة الاستراتيجية . وقد عرفنا ان وحدة الاستراتيجية تفترض وحدة النظرية (المبادىء أو الغايات). ولا شك في أن القوى

" العربية " بالمعنى الذي حددناه متعددة الغايات في الوطن العربي . لهذا فان وحدتها الشاملة مستحيلة التحقق . والاصرار على تحقيق وحدة مستحيلة هو ابقاء على التمزق . أما تلفيق وحدة شكلية مع تجاهل الاختلاف الفكري وتعدد الغايات فانه يؤدي إلى أضرار مضاعفة. ذلك لان الوحدة الملفقة لن تلبث- حتى تتحطم تحت ضغط الصراعات التي حاولت تغطيتها ، فيعود التمزق من جديد ولكنه في هذه المرة يكون أكثر عمقاً وأكثر حدة ، تضاف اليه ادانة فكرة "الوحدة " ذاتها أو اليأس من تحقيقها . وهو خطر لا يجوز أن نتجاهله تحت تأثير رغبتنا الملحة في وحدة القوى العربية في الوطن العربي. ومهما تكن الصعوبات فيجب أن نصر على أن تولد وحدة القوى العربية التقدمية مولداً صحيحاً. فاذا كنا قادرين على تجاوز تلك الصعوبات فمن الخير للأمة العربية ألا نقدم لها وحدة كاذبة. ومن الكذب أن ندعو إلى وحدة مستحيلة التحقيق. ووحدة " كل " القوى العربية مستحيلة . من أجل هذا كان حديثنا منذ بدايته مقصوراً على وحدة القوى العربية " التقدمية " . وتلك وحدة ممكنة بقدر ماهي لازمة .

فماذا الذي نعنيه بالتقدمية ؟

-8-

التقدمية

26- لعلنا وقد طال بنا الحديث عن " وحدة القوى العربية التقدمية " ثم اتسع فشمل نقاطاً عديدة أن نكون قد أدركنا اننا نواجه مشكلة أبعد ما تكون عن البساطة وان حلها يقتضي قدراً متفوقاً من الجدية والاستعداد للبحث الموضوعي مع الاصرار على ضرورة الوصول إلى حل . نقول هذا لأننا إذ نحاول- هنا- تحديد مفهوم التقدمية نتصدى- لأشد نقاط البحث دقة وغموضاً في الوقت ذاته . اما انها دقيقة فلأنها تتصل بقضايا فكرية لا يمكن الزعم بأنها ذات حدود قطعية . واما انها غامضة فلأن عدد الزاعمين التقدمية أكثر بكثير من عدد الزاعمين القومية أو الوحدوية . أي اننا بينما نجد قوى عديدة لا تعتبر نفسها أطرافأ في أي حوار يدور حول- القومية أو حول الوحدة ولاء منها لمنطلقاتها اللاقومية ، لا نجد أحداً لا يعتبر نفسه طرفاً معيناً في أي حوار حول التقدمية. فكل الناس فيما يزعمون تقدميون لأن أحداً لا يقبل تهمة الرجعية . وعندما يكثر المتحاورون بدون ضابط موضوعي يشيع الغموض وتقل فرص الالتقاء . وهذا يعني اننا في أشد حاجة إلى هذا الضابط الموضوعي ما دامت غايتنا أن نلتقي على نور . أي اننا في أشد الحاجة الى أكبر قدر من التحديد الواضح لمفهوم التقدمية في الوطن العربي حتى نستطيع أن نعرف من الذين نعنيهم بالحديث عن وحدة القوى العربية " التقدمية " ومن الذين تعنيهم حقاً هذه الوحدة . فلنحاول بقدر ما نستطيع وبقدر ما يطيق مجال هذا البحث القصير ، ولنتقدم على طريق المعرفة الشائك خطوة خطوة .

27 - " التقدمية " تقوم على قاعدة مسلمة أولى هي أن المجتمعات تتطور أي تتغير مضامينها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية... الخ خلال حركتها . فهي كظاهرة متغيرة متحركة. وعلى هذا لا يكون للتقدمية أي معنى عند أصحاب شعار " لا جديد تحت الشمس " الذين يأخذون بفكرة الثبات والخلود الاجتماعي . وآية هذه الفكرة الجامدة المواقف السلبية أو محاولة إيقاف التطور الاجتماعي زعماً بأنه افتعال غير لازم ، أو توهماً بأن من الممكن إيقافه . هؤلاء لا يمكن على أي وجه أن يكونوا تقدميين ولو كانوا قوة اجتماعية .

هذه خطوة أولى .

ثم في نطاق الإيمان بحتمية التطور لا يكون للتقدمية معنى إلا على أساس النظرية القائلة بأن المجتمعات تتطور خلال حركتها من الماضي إلى المستقبل تطوراً جدلياً أي عن طريق النمو والاضافة. وبهذا تفقد " التقدمية " أي معنى عند مدرسة " التاريخ يعيد نفسه " التي تسلم بالحركة والتغير ولكنها تنكر أن التطور ذو اتجاه يتقدم دائماً ولا يعود إلى الوراء أبداً . عند الذين يشاركون في الحركة الاجتماعية ويسعون إلى التغيير لأنهم يؤمنون بحتمية التطور ولكنهم يستهدفون من حركتهم إعادة الماضي كما كان . ذلك لان حركة بدون اتجاه تتميز بدايته عن غايته لا يمكن أن نقيس عليها تقدم أو تراجع الذين يتحركون فيها .

وهذه خطوة ثانية

ثم في نطاق حتمية التطور الاجتماعي خلال النمو والاضافة في حركة تتجه من الماضي إلى المستقبل يتحدد مفهوم التقدمية تبعاً لكل فترة زمنية . أي لا يكون للتقدمية معنى إلا إذا نسبت إلى مرحلة تاريخية معينة من التطور الاجتماعي . أو بصيغة أخرى وربما أدق : ليس للتقدمية مفهوم مطلق يصلح مقياساً للحركة في كل زمان . انها عندئذ تتحول إلى فكرة ثابتة . وبهذا تفقد التقدمية أي معنى عند المثاليين الذين يشاركون في الحركة الاجتماعية ويطلبون التغيير ويرفضون العودة إلى الماضي لانهم يؤمنون بحتمية التطور واتجاهه التقدمي ، ولكنهم يستهدفون من حركتهم تحقيق مستقبل يتجاوز المرحلة التاريخية التي يتحركون فيها.

وهذه خطوة ثالثة .

ثم في نطاق حتمية التطور في مرحلة تاريخية معينة يتحدد مفهوم التقدمية تبعاً لكل واقع اجتماعي معين . أي لا يكون للتقدمية معنى إلا إذا نسبت إلى مجتمع معين . أو بصيغة أخرى وربما أدق: ليس للتقدمية مفهوم مجرد يصلح مقياسأ للحركة في كل مكان . انها عندئذ تتحول إلى فكرة غير ذات مضمون. وبهذا تفقد التقدمية أي معنى عند الطوباويين الذين يشاركون في الحركة الاجتماعية ويطلبون التغيير ويرفضون العودة إلى الماضي ويلتزمون مرحلتهم التاريخية ولكنهم يستهدفون من حركتهم تحقيق غايات مستعارة من غير المجتمعات التي يتحركون فيها أو ليست حلاً للمشكلات التي تطرحها ظروف مجتمعاتهم .

وهذه خطوة رابعة.

إذا صح هذا - وهو عندنا صحيح - فمؤداه انه لا يمكن أن يكون " للتقدمية " في أي مجتمع معين في زمن معين إلا مفهوم موضوعي واحد . وهذه نقطة دقيقة . نريد أن نقول اننا إذا عرفنا معرفة علمية صحيحة حقيقة المشكلات التي تطرحها الظروف الموضوعية لأي مجتمع محدد في زمن محدد لعرفنا انها تقتضي حلاً محدداً موضوعياً . والتزام هذا الحل هو المقياس الموضوعي للتقدمية . فاذا اختلف الناس في مجتمع محدد في زمن محدد حول الموقف التقدمي فلا بد أن يكون هذا راجعاً إلى اختلافهم في مدى صحة المعرفة بحقيقة المشكلات التي تطرحها ظروفهم أو صحة الحلول التي يتصورونها لتلك المشكلات . ولكن هذا الاختلاف في " المعرفة " الذي يؤدي إلى تعدد المواقف التي تدعي التقدمية لا يعني أن الحقيقة الموضوعية معدومة أو غير قابلة للمعرفة وبالتالي لا يعني أن التقدمية موقف " ذاتي " وليس موضوعياً . بل قد يعني اننا في حاجة إلى مزيد من المعرفة العلمية بظروفنا والحوار الديموقراطي حتى نكتشف معاً حقيقة المشكلات التي نواجهها والحلول الصحيحة لها ، أي حتى نكتشف معأ المقياس الموضوعي للتقدمية . خلاصة هذا- وهو ما بدأنا به هذه الخطوة من الحديث - انه لا يمكن أن يكون للتقدمية في أي مجتمع معين في زمن معين إلا مفهوم موضوعي واحد .

وهذه خطوة خامسة

ثم وقفة قصيرة لنرى عبث اليمين واليسار .

28 - نحن لاننكر اننا منذ قرون ونحن نتلقى من الفكر الاوربي أكثر مما نعطيه وان كنا قد أعطيناه قروناً لم يكن يملك فيها شيئاً ليعطيه. وعلى هذا فاننا نعتقد اننا ننتحر اختناقاً فكرياً لو أغلقنا عقولنا دون التراث الفكري الاوربي أو الانساني. بل إننا نعتقد ان من مصلحتنا نحن أن نسعى إلى هذا الفكر ونبذل الجهد الجاد في دراسته واستيعابه . ونزيد فنعتقد بأننا لا نضر الا أنفسنا لوأقمنا مصفاة تعزل عنا بعض الفكر الانساني وان علينا أن نلتقي به كما هو بدون خوف أو تعصب. من هنا ليس ثمة فائدة في اثارة معارك فكرية حول كثير من التعبيرات التي تلقيناها من الفكر الأوربي وأخذت أماكنها في لغتنا الثقافية بالرغم من معرفتنا أن تلك تعبيرات فاسدة الدلالة ، يقيناً منا بأننا عندما نسترد كامل اصالتنا الفكرية سنكون قادرين - بدون معارك - على فرز ما نتلقى طبقاً لمقياس أصيل .

ومن بين تلك التعبيرات الدارجة الفاسدة معاً تعبير اليمين واليسار في الفكر أو في السياسة. والأصل التاريخي لهذا التعبـير معروف . فقد وقفت " الطائفة الثالثة " على يسار مقعد رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية تعبيرأعن موقفها المعارض للملكية قبيل الثورة الفرنسية. وأصبح تقليداً غالبأ أن يجلس ممثلى المعارضة في مقاعد اليسار من قاعات البرلمانات معبرين بمواقعهم المكانية عن مواقفهم السياسية من الحكومة القائمة . فان تغيرت الحكومة بدّلوا مقاعدهم فأصبح اليسار يميناً وأصبح اليمين يساراً بدون أن يبدل أحد أفكاره . وهكذا كان أقصى ما يدل عليه الموقف اليساري هو الرغبة في التغيير. تغيير الحكومة . ثم انتقل التعبير للدلالة على التغيير الاقتصادي والاجتماعي. ولما كانت النظم الاجتماعية أكثر ثباتاً وأطول عمراً من الحكومات فان الموقف اليساري من النظم القائمة لم يعد يرتبط بتغيير الحكومات مع بقاء النظام الاجتماعي بدون تغيير. وقد كان النظام الرأسمالي هو السائد في أوربا فأصبح اليسار يطلق على التيار الاشتراكي الذي بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ولا يزال يطلق عليه حتى الآن أينما كان النظام الرأسمالي هو النظام السائد . ومع التسليم بأن الاشتراكية أكثر تقدمية من الرأسمالية أصبح الموقف الاشتراكي هو التعبير عن الموقف التقدمي ، وهو اليسار في ذات الوقت من حيث هو يسعى إلى تغيير النظام الرأسمالي القائم . وكان كل هذا قابلأ للفهم في ظل المجتمعات الأوروبية المتحررة الموحدة الصناعية التي لا تواجه من المشكلات الأساسية سوى مشكلة توزيع الرخاء المتاح.

ومع ان كل هذه قضايا فاسدة لأن اليسار واليمين لا بد أن ينسبا الى اتجاه ثابت فهذا على يساره وذلك على يمينه كما كانت مواقع المعارضة تنسب الى منصة رئاسة المجالس الا انه لم يكن ثمة ضرر في استعمالها على دلالتها الدارجة . فالاشتراكيون يسار تقدمي والرأسماليون يمين رجعي. ولكن العبث اللفظي لم يلبث ان أصبح غطاء للعبث السياسي عندما انقطعت صلة اليسار بالتقدمية. وقد انقطعت تلك الصلة في موضوعين . الموضوع الأول عندما أصبح اليسار بالنسبة لمشكلة محددة هو اليسار بالنسبة للواقع الاجتماعي ككل . فاليسار الفرنسي مثلاً ظل يساراً حتى وهو يشن علينا في مصر والجزائر حرباً استعمارية . واليسار الشيوعي ظل يساراً حتى وهو يناهض الوحدة . وفي عدد خاص من مجلة " الأزمنة الحديثة " جمع سارتر كلاماً كثيراً ممن قيل انهم يمثلون اليسار العربي واليسار الاسرائيلي فأصبح بعض الاسرائيليين يساراً على الأرض التي اغتصبوها وشردوا أهلها . الموضوع الثاني : عندما أصبح اليسار لايحدد موقف القوى من الواقع و لكن الموضوعي يحدد مواقفها فيما بينها . فتعدد اليسار وتعدد اليمين وأصبح لكل يسار يمين ويسار، ولكل يمين يسار ويمين... الخ . وقد قرأنا في هذا قولاً عجباً . ففي رسالة دكتوراه، قدمت أخيرأ إلى جامعة السربون عن الحركة السياسية في الوطن العربي ما يفيد أن الشيوعيين الموالين للخط الصيني هم يسار الشيوعيين العرب ، الذين هم يسار الاشتراكيين العرب ، الذين هم يسار الوحدويين العرب ، الذين هم يسار العرب القوميين الذين هم يسار الحركة العربية الحديثة التي تقع على اليسار من الحركة التحررية في العالم الثالث... وطبيعي أن يكون الفوضويون على يسار الشيوعيين العرب وأن تقف بعض النظم العربية في أقصى اليمين . كل هذا في رسالة علمية . ولكن انصافاً للسيدة العربية النابهة التي قدمتها نقول انها كانت تنقل فيها ما يدعيه كل امرىء لنفسه في الوطن العربي . والمسألة ان كل من أراد يستطيع أن يدّعي لنفسه اليسارية ما دام يجد ولا بد من أن يجد من يقف على يمينه . وعندما يصبح اليسار على هذا الوجه مقطوع الصلة بالمشكلات الموضوعية مباحاً لكل من يدعيه تفقد اليسارية أي دلالة خاصة ويصبح استعمالها عبثاً ، والعبث باليسار ليس ظاهرة عربية فمن قبل خمسين عاماً تقدمت إلى انتخابات الجمعية التأسيسية في بتروغراد ( لينينجراد ) التي تمت في ظل ثورة اكتوبر 1917- احدى عشر منظمة سياسية تدعي كلها اليسار بالاضافة إلى البلاشفة أنفسهم الذين لم يلبثوا حتى تكوّن منهم جناح يساري . عندئذ ابتكر لينين تعبيره الساخر الخالد معاً : " اليسار الطفولي " وقد صفّت ثورة اكتوبر كل ذلك العبث باسم اليسار .

على أي حال ما كان كل هذا العبث باليسار ليستحق الحديث عنه لولا انه يتضمن عبثاً بمفهوم التقدمية في الوطن العربي للعلاقة التاريخية بين تعبير اليسارية وتعبير التقدمية . ومن هنا أصبح لزاماً أن ندافع عن حق الجماهير في أن تعرف ماذا يعنيه المتحدثون عن اليسارية وهم يعنون بالتقدمية . ولسنا نريد من هذا الدفاع أن نبتكر لليسارية مفهوماً جديداً في الوطن العربي . ولكنا نقول انه مادامت اليسارية بدلالتها التاريخية الدارجة تعني التقدمية فإن استعمالها يجب أن يكون جاداً الجدية التي يستلزمها الحديث المسؤول عن مصير الشعوب .

ومصيرنا في الجدية أن نحدد مفهوم التقدمية في الوطن العربي ، ونقبل أن تكون التقدمية هي مقياس اليسارية، ثم نعتبر ما يزيد عن هذا من حديث عن اليسار عبثاً لن يلبث أن ينتهي .

على ضوء هذا لا يمكن أن نقبل الحديث عن " وحدة اليسار العربي " - وهو حديث يتردد - إلا إذا كان يعني " وحدة القوى العربية التقدمية " وهو حديثنا الجاري .

29- ولقد تقدمنا على الطريق إلى تحديد مفهوم التقدمية خطوات خمس هي فيما نعتقد كافية لنعرف ما هي التقدمية وماهي القوى التقدمية .

فالتقدمية موقف من الواقع في مجتمع معين يستهدف تطويره عن طريق حل المثسكلات التي تطرحها ظروفه في مرحلة تاريخية معينة . والقوى التقدمية هي الجماهير التي تجسد هذا الموقف وتناضل من أجل حل تلك المشكلات .

30- مرة أخرى نلتقي هنا بقضية أخرى من القضايا التي تلقيناها من الفكر الأوربي وأخذت مكانها في " لغتنا الثقافية " وهي قضية " الطبقية ". وأهميتها هنا ترجع الى ان البعض يتحدثون عن " وحدة الطبقات الكادحة " كتعبير آخر عن " وحدة القوى العربية التقدمية " . وقبول هـذا أو رفضه يتوقف على معرفة كيف تتكون القوى التقدمية ، وماذا نعنيه بالطبقة ولسنا نريد أن نخوض في هذ! الحديث طويلاً حتى لا يخرج بنا عن نطاق هذا البحث فهو حديث يستحق بحثاً خاصاً . ويكفي هنا أن نقول ان ثمة ثلاثة مناهج يختلف مفهوم الطبقية والتقدمية تبعاً لكل منها .

فثمة المنهج المادي وطبقأ له تصبح كل القوى التي لها مصلحة فى حل المشكلات التي تطرحها الظروف الاجتماعية قوى تقدمية حتماً لان الوضع الاجتماعي يحدد حتماً الموقف السياسي بصرف النظر عن الوعي. وثمة المنهج المثالي وطبقاً له تصبح القوى الواعية بالمشكلات التي تطرحها الظروف الاجتماعية وبطريقة حلها قوى تقدمية ، لان الوعي الاجتماعي يحدد الموقف السياسي بصرف النظر عن المصلحة. وثمة المنهج الانساني وطبقاً له يتحدد الموقف السياسي بالوعي بالمصلحة في حل المشكلات التي تطرحها الظروف الاجتماعية والعمل على حلها . فالقوى التقدمية هي التي لها مصلحة في حل المشكلات، وتعرفها ، وتعمل على حلها .

ونحن نأخذ بهذا المنهج الأخير ولا ننكر على أحد أن ينتهج مايشاء . كل ما نطلبه هو أن يلتزم كل واحد منهجه حتى آخر النتائج التي يصل اليها ولو من قبيل الصدق في الحديث. فلا يتصدى أكثر الناس رفاهية بدون عمل إلى قيادة " الطبقات الفقيرة الكادحة " لانها هي الطبقات التقدمية ويتجاهلون انهم بهذا وحده يفقدون مبرر تصديهم لتلك القيادة لانهم من حيث هم لا فقراء ولا كادحين لا يكونون تقدميين . فان قالوا انما نحن أكثر الناس وعياً قلنا إذن فقد خالفتم منهجكم في تحديد مقياس التقدمية... الخ

31 - أما نحن فنتقدم خطوة أخرى لنعرف من هي القوى العربية التقدمية . وقد عرفنا الآن ان البداية تكون بتحديد المشكلات التي يطرحها الواقع العربي في هذه المرحلة التاريخية وحلولها، حيث تكون تلك الحلول هي المقياس الموضوعي للتقدمية في الوطن العربي . فما هي تلك المشكلات. وماهي حلولها ؟.

انها كثيرة ، وامام كثرتها لا بد لنا من أن نختار. غير اننا

لا نختار على ما نهوى بل نختار فيما بين الأساسي والفرعي . بين المشكلات الأصلية وما يتوالد عنها ذاتها من مشكلات أخرى يتوقف حلها على حل المشكلات الأولى. وفي رأينا ان الواقع العربي يطرح في هذه المرحلة التاريخية أربع مشكلات أساسية :-

أولاً : مشكلة الاستعمار: الاستعمار التقليدي في بعض أجزاء الوطن العربي أي الاغتصاب بالقوة المادية ويدخل ضمنه الاغتصاب الصهيوني للأرض العربية . و الاستعمار الجديد في كثير من أجزاء الوطن الذي يتمثل في التبعية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية لقوى أجنبية . وحل هذه المشكلة هي الحرية .

ثانياً : مشكلة التجزئة : تقسيم الوطن العربي الواحد إلى دول عديدة ، وتقسيم جماهير الأمة العربية الواحدة إلى عديد من الشعوب المحصورة في الدول الاقليمية. وحل هذه المشكلة هي الوحدة .

ثالثاً : مشكلة التخلف والاستغلال : ضعف المقدرة الانتاجية في الوطن العربي ومعدل سرعة التنمية وانخفاض مستوى المعيشة إلى أقل بكثير من حدود الفقر، ثم توزيع الانتاج المتاح توزيعاً مستغلاً يحقق الرخاء لقلة تافهة ويحرم الكثرة الغالبة حتى من ضروريات الحياة . وحل هذه المشكلة هي الاشتراكية .

رابعاً : مشكلة الاستبداد : استغلال كل المشكلات السابقة لقهر الجماهير العربية وسلبها المقدرة على التعبير والحركة وبالتالي الحيلولة بينها وبين أن تتولى افراز قوتها المنظمة القادرة على حل مشكلاتها. وحل هذه المشكلة هي الديموقراطية .

ولما كانت الديموقراطية تتصل اتصالاً مباشرأ بالحرية فان الحلول التي تتطلبها المشكلات الأساسية كما تطرحها الظروف الموضوعية للواقع العربي في هذه المرحلة التاريخية تصبح الحرية والوحدة والاشتراكية . وذلك هو- فيما نرى- المقياس الموضوعي للتقدمية في الوطن العربي .

32- وقد يبدو من هذا ان التقدمية في الوطن العربي تتسع لتشمل القوى التي تناهض الاستعمار والاستبداد وتستهدف الحرية ولو رفضت الوحدة والاشتراكية ، أو القوى التي تناهض التجزئة وتستهدف الوحدة ولو رفضت الاشتراكية والديموقراطية ، أو القوى التي تناهض الاستغلال وتستهدف الاشتراكية ولو رفضت الديموقراطية والوحدة . ولكن الأمر على غير ما قد يبدو بالرغم من ان هذا خطأ شائع.

ان كثيرين في الوطن العربي يعتقدون انهم تقدميون لمجرد انهم تحرريون أو وحدويون أو اشتراكيون . ويشاركون في الحديث عن " وحدة القوى العربية التقدمية ". وهم يعنون وحدة القوى التحررية، أو وحدة القوى الوحدوية ، أو وحدة القوى الاشتراكية ، فلا يفعلون بهذا شيئاً سوى اشاعة الاضطراب في الحديث وتعويق وحدة القوى العربية التقدمية . ذلك لانهم ينسون أو يتناسون أو يجهلون ان التقدمية ليست موقفاً من احدى المشكلات التي يطرحها واقع اجتماعي معين ، بل هي موقف من تطور ذلك الواقع الاجتماعي المعين عن طريق حل كل المشكلات التي يطرحها. وبالتالي فانه إذا كان الواقع العربي يطرح مشكلات أساسية تقتضي حلولاً رئيسية ثلاثة هي: الحرية والوحدة والاشتراكية ، فان هذا يعني ان التطور التقدمي للمجتمع العربي يقتضي تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية معاً . أو في جملة واحدة قد يكون أسهل استيعاباً : اقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديموقراطية .

وعليه، فالقوى العربية التقدمية هي تلك القوى التي تناضل من أجل اقامة دولة الوحدة والاشتراكية والديموقراطية في الوطن العربي .

وثمة ما يجب أن يضاف :

33- ان الأغلبية الساحقة من الجماهير العربية ذات مصلحة مصيرية في تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية فهي مرشحة بحكم مصالحها الموضوعية لتكون تقدمية . ومنذ أمد غير قصير والوعي على تلك المصالح ينمو بمعدلات تفوق الجهود التي بذلت في تنميته ، ذلك لان الأحداث نفسها قد تولت تفجير وعي الجماهير العربية على ما يجب أن يكون في الوطن العربي . ولا شك في ان هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 قد كانت أكثر مما يلزم لتنبيه الغافلين إلى ان مصالحهم ولو كانت شخصية ، ولو كانت اقليمية لا يمكن أن تحفظ وتنمو إلا في ظل دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية . ومن هنا يمكن القول ان القوى الجماهيرية العربية التقدمية تشكل الثقل الجماهيري الراجح في الوطن العربي ، لا ينقصها إلا وحدتها لتكون قوة كاسحة.

غير ان هذا لا يعني انها تستوي في وعيها أو في مقدرتها على الحركة.. ففي اطار الموقف التقدمي ، أي استهداف الحرية والوحدة والاشتراكية ، ثمة من يعتقدون ان مشكلة الحرية أكثر حدة والحاحاً ، أو ان مشكلة الوحدة هي الحادة الملحة ، او ان مشكلة الاشتراكية هي المشكلة الأولى في الوطن العربي. أي انهم قد يختلفون في أولويات الحلول وطرق الوصول اليها. وهذا الاختلاف وان كان لا يخرجهم من نطاق القوى العربية التقدمية إلا انه يمزقهم فرقاً مختلفة . ولما كانت قضية التطبيق وأولوياته لا تتوقف على مجرد رغبة المناضلين بل على ظروف النضال ومواقف القوى المضادة ، فان مقدرة كل القوى العربية التقدمية على تحقيق غاياتها متوقف على التحامها جميعاً في تنظيم قومي واحد يقود النضال ضد الاستعمار والاستبداد والتجزئة والاقليمية والتخلف والاستغلال طبقاً لظروف النضال في سبيل أي من هذه الغايات وضد أية قوى تناهضها. أي أن تجاوز الاختلاف على أولويات المعارك التكتيكية لا يكون إلا بوحدة الاستراتيجية وهي تتطلب- كما عرفنا - وحدة التنظيم ووحدة القيادة .

ومن ناحية أخرى ففي إطار الموقف التقدمي، اي استهداف الحرية والوحدة والاشتراكية ، تختلف مواقع المعارك على الأرض العربية . ففي أجزاء منها تدور معارك التحرر. وفي الأجزاء المتحررة تدور معارك الوحدة . وفي داخل كل جزء متحرر تدور معارك الاشتراكية وطبيعي في هذه الحالة أن تكون القوى العربية التقدمية على المستوى العربي مشتبكة في معارك تكتيكية متنوعة الغايات ، وهو ما يمزقها فرقاً متنوعة . ولما كان ذلك التنوع تفرضه مواقع القوى المعادية فان الضمان الوحيد لعدم استدراج القوى العربية التقدمية من خلال اشغالها بمعارك محلية إلى مواقف خارج نطاقها التقدمي هو ربط كافة المعارك التي تخوضها في مواقع تكتيكية باستراتيجية واحدة شاملة الوطن العربي كله ، وهو ما يقتضي كما عرفنا وحدة التنظيم والقيادة . إذن فحتى لو انطلقنا في البحث عن صيغة لوحدة القوى العربية التقدمية من هويتها التقدمية لانتهينا إلى ان التحامها في تنظيم قومي واحد هو الصيغة التي توفر لها القدرة على انتهاج الاسلوب العلمي في نضالها ، وتجسد وتحفظ لها - في الوقت ذاته - سمتها التقدمية .

وقد عرفنا من قبل هذا ان الانطلاق في البحث عن صيغة لوحدة القوى العربية التقدمية من هويتها " العربية " ينتهي إلى ان التنظيم القومي هو الذي يحفظ لها ويجسد عروبتها .

وعرفنا ان مجرد البحث عن صيغة " للوحدة " يعني البحث عن منظمة سياسية واحدة تجمع القوى العربية التقدمية . وتوفر لها وحدة الاستراتيجية .

فكأننا من أية زاوية نظرنا إلى المشكلة انتهينا إلى حل واحد .

فما الذي يعوق الوحدة ؟

-9-

فلتفرز القوى

34 - لو ان البحث عن صيغة لوحدة القوى العربية التقدمية كان مقصورأ على " القوى العربية التقدمية " بالمعنى الذي حددناه في الفقرات السابقة لما اختلف اثنان منهم في ان مقدرتهم على النصر متوقفة على التحامهم في تنظيم قومي واحد ثم لاكتشفوا ان ليس ثمة أية عقبة في سبيل وحدتهم . فلماذا لا يفعلون .

لانهم لم يفرزوا أنفسهم من القوى التي تختلط بهم فاختلطت الأمور عليهم . وأكثر ما أثاره اختلاط الامور هو الخوف من أن يؤدي الفرز إلى مزيد من الفرقة والتمزق بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي في الوقت الذي تواجه فيه الأمة العربية ككل مخاطر استعمارية وصهيونية عدوانية وشرسة. وهو أمر لم تكف القوى الاقليمية الرجعية عن استغلاله لارهاب ائقوى العربية التقدمية وشل مقدرتها على تحقيق وحدتها . فبقي اللقاء بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي على المستوى التكتيكي عاجزاً عن تجاوزه إلى وحدة الاستراتيجية . وكلما حاول العرب التقدميون فتح حوار بناء لتجاوز هذا الالتقاء المرحلي المحدود إلى وحدة تنظيمية دائمة وشاملة ثار الاقليميون واتهموا المحاولة بأنها تجريدية ، وغير واقعية ، وأنها تؤدي إلى تمزق صفوف الجماهير ، أو اتهموها بأنها محاولة غبية ومحاولة عميلة... الخ . وهي اتهامات تثير الرعب فعلاً .

ولكن ماذا كانت النتيجة ؟

شل الخوف القوى العربية التقدمية فلم تحقق وحدتها ، وبذلك افتقد النضال العربي المقدرة على النصر عندما فقد وحدة الاستراتيجية على المستوى الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه وهو المستوى الجماهيري . وجاء يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 جزاء وفاقاً لتقاعس القوى العربية التقدمية عن مسؤولياتها القومية أكثر منه جزاء لعجز الدول الاقليمية . وقال كثيرون ليتنا لم نخف وليتنا بدأنا منذ عشر سنين في بناء التنظيم القومي إذن لكنا اليوم قادرين على تلافي الهزيمة وتحقيق النصر.

وهو اعتراف بالمسؤولية عن الهزيمة التي وقعت والنصر الذي ضاع . إذن فانتبهوا جيداً : ان لم تبدأوا الآن فستواجهون هزيمة أخرى بعد عشر سنين أخريات . لا مفر من هذا ان كنتم قد تعلمتم شيئاً من هزيمة 5 يونيو ( حزيران ) 1967 .

ثم ،

ان التقاء أكبر عدد من القوى الجماهيرية في الوطن العربي في ساحة المعركة ضد الصهيونية هو وفرة في الإمكانيات. ولكن النصر العربي متوقف على كيفية الاستفادة من الامكانيات المتاحة لا على مجرد وفرتها. وإذا كان لا بد من الخيار بين حشد الامكانيات الوفيرة في مواجهة العدو وبين توفير الاسلوب العلمي للنضال ، فان طريق النصر هو الاسلوب العلمي ولو بامكانيات وفيرة . ولا بد من الخيار. هذا إذا كنتم قد تعلمتم شيئاً من هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967.

ثم ،

إذا كانت وحدة القوى العربية التقدمية هي الطريق إلى النصر ، وكانت تلك الوحدة لا تتحقق إلا بفرز القوى في الوطن العربي فإن هذا الفرز لا يعني الفرقة أو التمزق أو العداء مع القوى الجماهيرية الأخرى وهي جميعاً تواجه خطرآ مشتركأ فإن وحدة القوى العربية التقدمية لا تحول دون ا للقاء والتعاون والتنسيق والتحالف مع كل القوى التي تقف معها في مواجهة العدو المشترك، بل ان وحدتها هي التي تمكنها من قيادة النضال المشترك حتى يحقق غايته بدون تخاذل أو تراجع أو تظاهر أو مزايدة . والنضال المشترك في غيبة قيادة قومية لا يؤدي إلى النصر العربي . هـذا إذا كنتم قد تعلتمم شيئاً من هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 ،

ثم ،

ان طاقة الدول العربية على النضال القومي محدودة بطبيعتها الاقليمية. فلا يفيد شيئاً الاسفاف في اتهامها، وليس عدلاً ان نتوقع منها ما لا تقدر عليه. ومهما يكن من صدق فيما ينسب إلى بعض الحاكمين في الوطن العربي فان القوى العربية التقدمية هي القادرة على تحقيق النصر فأولى بها أن تصدق مع ذاتها فتواجه مسؤولياتها بدلاً من اتهام العاجزين . ان القوى العربية التقدمية هي الطرف الأصيل في الصراع ضد الصهيونية وعليها مسؤولية سحقها. ولن ينفعها شيء ، ولن يعذرها أحد ، ان شغلت نفسها عن الصراع بما لا يجدي أو يفيد . هذا إذا كنتم قد تعلمتم شيئاً من هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967.

قد تعلمنا .

-10-

فما العمل ؟

35- من الممكن إلى ما يجب أن يكون .

الممكن هو ما يتيحه الواقع . والواقع الأول اننا نبحث عن وحدة القوى العربية التقدمية من مواقع الهزيمة في معركة 5 يونيو (حزيران) 1967. ومن هذه المواقع لا يمكن إلا حشد كل القوى المتاحة للصمود أولاً . والصمود لا يعني مجرد عدم التراجع بل يعني أيضأ عدم الاستسلام ثم- ثانياً - استرداد ما فقدناه . وما فقدناه ليس مجرد الأرض والعتاد ومصادر الانتاج بل يشمل أيضأ- ربما قبل هذا وفوقه- أرواح الشهداء وثقة الاحياء في مقدرتهم على النصر ، وقد يكون استرداد ما فقدناه من أرض وعتاد ومصادر انتاج ميسراً بأساليب عدة ، أما العزاء عن الشهداء واسترداد ثقة الجماهير العربية في نفسها فلا تسترد إلا بذات الاسلوب الذي أضاعها.

والواقع الثاني ان وحدة القوى العربية الثقدمية مفتقدة . ووحدة الدولة العربية مفتقدة . فليس متاحاً على المستوى الرسمي إلا أوسع قدر من الالتقاء وأكبر قدر من التعاون والتنسيق بين الدول العربية. وليس متاحاً على المستوى الجماهيري أكثر من تكوين جبهة بين كل القوى الجماهيرية في الوطن العربي لتحول دون التراجع أو الاستسلام أو المساومة. ثم لتسهم في المعركة بما تستطيع .

هذا هو الممكن لا أكثر.

فان خطر لبعض القوى العربية التقدمية أن تتخطى عن المواقع التي فرضتها هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 وان ترفض الممكن رسمياً (التنسيق والتعاون بين الدول العربية) والممكن جماهيرياً (الجبهة بين القوى العربية) بحجة انها تريد أن تتفرغ لانجاز وحدتها فاننا نقول لها بهدوء ان هذا هروب واستسلام لا يخفيه الادعاء بأننا قد تعلمنا من دروس الهزيمة ولا نريد أن نستمر في الخطأ . ذلك لان الموقف الذي تجد القوى العربية التقدمية نفسها فيه الآن ليس هو الخطأ الذي لا ينبغي الاستمرار فيه بل هو نتيجة خطأ استمر طويلاً قبل أن يقع . وهو نتيجة قابلة - تحت ضغط القوى المعادية - لان تستفحل أو تستقر فمن الخطأ المجدد الا نحول دون استفحالها أو استقرارها .

36- غير ان هذا الممكن الذي حدده الواقع المفروض علينا لا ينبغي علينا أن نفرض الواقع الذي يجب أن يكون. ان نسبق الأحداث ونتحكم فيها قبل أن تقع . فكيف نحول دون أن يقع في وطننا العربي غير ما نريد أو نتوقع . كيف نحول دون أن تتكرر في تاريخ أمتنا هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967.

لابد من " استهلاك " فترة تخلفنا عن الأحداث لنسبق الزمن . لا مفر من أن نعد للواقع الذي نريده بالاسلوب العلمي " في ذات الوقت " الذي نواجه فيه الواقع المفروض علينا " بالاسلوب الممكن. وهذا يعني ان علينا أن نعمل عملاً مزدوجاً . والممل المزدوج عمل مضاعف ، ومشقة مضاعفة، وتضحيات مضاعفة... ووعي مضاعف أيضاً . وليس من حقنا أن نشكو فاننا بهذا ندفع الثمن العادل لما أضعنا من سنين من التردد بدون عمل بين ما هو ممكن وما يجب أن يكون .

37- ومع هذا فان المشكلة تطرح علينا الحل . ويبدو ان الهزيمة ذاتها قد أفرزت امكانية النصر، إذ جمعت موضوعياً بين الممكن وما يجب أن يكون في عمل واحد .

لقد قيل تارة ان الوحدة طريق تحرير فلسطين . وقيل تارة أخرى ان تحرير فلسطين طريق الوحدة . وظن القائلون جميعاً انهم يتحدثون لغة مشتركة. والواقع انهم ضحايا الالفاظ التي يستعملونها . فالوحدة " السياسية " طريق تحرير فلسطين . ولكن معركة تحرير فلسطين يمكن أن يكون طريق الوحدة " الجماهيرية " : وحدة القوى العربية التقدمية . نقول يمكن أن يكون لأن ذلك متوقف على موقف المناضلين في سبيل تحرير فلسطين . انهم - أرادوا أم لم يريدوا - في موقع اختبار تاريخي . فإما أن يكونوا نواة حركة ثورية عربية واما أن يكونوا نواة حركة تحررية فلسطينية . وفي أيديهم أن يختاروا لانهم في البداية . وفي أيدي القوى العربية التقدمية أن تأخذ أماكنها في معركة النضال الثوري في الأرض المحتلة فتحسم الخيار لمصلحة الثورة العربية. وهناك من خلال المعارك الحية تستطيع أن تنسج وحدتها . انها فرصة تاريخية سيدفع الذين يضيعونها على الأمة العربية ثمنأ غالياً !. والأمر بعد ليس بما يقال ويعلن ولا حتى بالمقدرة النضالية . ولكنه متوقف على ما اذا كانت حركة المقاومة الثورية في الأرض المحتلة تجسد شكلاً ومضمونأ الثورية العربية . علىمقدرتها على أن تكون بذرة تحتوي في ذاتها كل امكانيات النمو الثوري العربي كما تحتوي البذرة كل عناصر الشجرة الباسقة .

ان هذا لا يعني ان تتخلى الجماهير العربية عن مساندة المقاومة في الأرض المحتلة ولو ظلت - كما أسميت للأسف مقاومة فلسطينية تحت تأثير ارهاب القوى التي لا تريد لها أن تكون مقاومة عربية . بل ان الامة العربية كلها وراء المقاومة الثورية . كل ما في الأمر اننا نتمنى للابطال المقاتلين في- الأرض المحتلة أن يتجاوزوا شكلأ ومضمونأ حدود الممكن ليجسدوا شـكلأ ومضمونأ ما يجب أن يكون . وإلا فان انتصارهم الذي لابد منه سيكون نصراً في معركة عربية ويبقى على القوى العربية التقدمية مسؤولية تحقيق النصر العربي : اقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية .

وبعد ، فان أرفع تحية للابطال أن نكون معهم صادقين .

38- وايا ما كان الأمر، إذا كانت هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 قد حسمت تردد القوى العربية التقدمية بين ما هو ممكن وبين ما يجب أن يكون ، وإذا كانت قنابل النابالم التي حرقت أجساد شهدائنا قد حرقت الذهنية التجريبية ، وإذا كانت القوى العربية التقدمية قد تعلمت انها المسؤولة عن تحقيق النصر العربي... باختصار إذا كانت هزيمة 5 يونيو ( حزيران) 1967 قد علمتنا ان النصر النهائي لأمتنا في معارك الحياة أو الموت التي تخوضها متوقف على التحام القوى العربية التقدمية في تنظيم قومي واحد فانها تكون قد وضعت أقدامنا على أول طريق النصر.

أما كيف يكون التنظيم القومي فذلك حديث آخر .

القاهرة في 19/7/1968

ليست هناك تعليقات: