2008/10/10

نجاح المسلسل دليل على تمسك الشعب العربي بالمشروع القومي الناصري



"نـــــــــــــاصر" في تونس

بقلم خالد الكريشي

وعندما يسألنا أولادنا

من أنتم؟

في أي عصر عشتم

في عصر أي ملهم

في عصر أي ساحر

نجيبهم :في عصر عبد الناصر

الله....ماأروعها شهادة

أن يوجد الإنسان في زمان عبد الناصر

نزار قباني

"لا أعلم ملابسات الموضوع بالتحديد لأنّي مشغول بالإنتهاء من المشاهد الأخيرة،ولكن المسلسل سيصل للناس بالتأكيد ،لأن الذّي يحب أحد سيبحث عنه ،وشخصية ناصر لها شعبية كبيرة" ،بهذه الكلمات القليلة يعلق الفنان مجدي كامل – الذّي تقمص بكل إتقان ونجاح في مسلسل "ناصر" شخصية جمال عبد الناصر – على قرار الحكومة المصرية منع عرض المسلسل بالتلفزيون المصري الذي أسسه جمال عبد الناصر أثناء شهر رمضان المنقضي ،وبالفعل فقد صدق مجدي كامل، إذ لم يشذ شعبنا في تونس عن القاعدة العامة فإنبرى يبحث عن السبل الكفيلة لمشاهدة المسلسل بالرغم من قرار الحجب وإمتناع العديد من القنوات عن عرضه وخاصة القنوات "البترولية" ،لأنه يحب عبد الناصر الذي لا ينكر شعبيته الكبيرة إلا جاهلاأوجاحدا حقودا،وراجت بين الهواتف الجوالة الإرساليات القصيرة بداية شهر رمضان حاملة أسماء القنوات الفضائية التي تبث المسلسل وكيفية إلتقاطها،وهي التي لا تتعدى خمس قنوات فقط! في خضم هذا الطوفان الهائل من مئات القنوات الفضائية العربية ،ولم يكن هذا الشغف والحرص على مشاهدة المسلسل مقتصرا فقط على الناصريين بتونس أو المسيّسيين عموما من جميع الإتجاهات بل شمل مختلف فئات شعبنا بالقطر والناس العاديين ومن شباب ولد بعد وفاة جمال عبد الناصر ولم يعايش الحقبة الناصرية بانتصاراتها العظيمة وسلبياتها القليلة وهو ما يعكس حقيقة عمق وأصالة علاقة شعب تونس بجمال عبد الناصر الإنسان وجمال عبد الناصر المشروع ،فترفع صوره الآن هنا – وليس في خمسينات القاهرة- في جميع التحركات الجماهيرية بتونس المساندة لشعبنا بفلسطين والعراق ولبنان وغيرها وتعلق في المنازل والمكاتب بالرغم من الدعاية الإقليمية المعادية الفرنكوفونية المضادة لكل ما يمت بصلة لعبد الناصر وتراث عبد الناصر،وبالرغم من ضخامة أبواق الدعاية المضادة وأقلام غربان الردة التي تقطر بترولا وحقدا وإسفافا بتحريض مباشر من الإمبريالية والصهيونية والأنظمة الرجعية العربية،وإنخرطت بعض التيارات السياسية للأسف في هذه الجوقة المحمومة عن قصد وبدون قصد ،لدرجة أن أحدها بتونس كان في ثمانينات القرن الماضي يعتبر الكتابات الصفراء المهاجمة لعبد الناصر ولعصره من ضمن أدبياته السياسية ليستقطب بها شباب المعاهد والكليات!!

تمتد علاقة شعبنا بتونس مع عبد الناصر بداية من خمسينات القرن الماضي إلى اليوم متخذة تمظهرات وتشكيلات متعددة ومختلفة ،إنطلاقا مع "اليوسفيين" ثم "التيار القومي التقدمي" و"التجمع القومي العربي" و"الطلبة العرب التقدميين الوحدويين" و"طلبة القوميون" متصدية لمختلف أشكال القمع والإحتواء لتنصهر كلها اليوم في "الوحدويين الناصريين بتونس"،فلم ينس شعبنا بتونس دور عبد الناصر في دعم الحركة الوطنية التونسية ومساندته الكفاح المسلح لدحر الإستعمار الفرنسي البغيض بكامل أقطار المغرب العربي ،كما أن زيارة عبد الناصر لتونس سنة 1963 إبان العدوان الفرنسي على مدينة بنزرت ومعركة الجلاء لم ولن تنمح من ذاكرة شعبنا ،يومها خرج شعبنا على بكرة أبيه لملاقاة عبد الناصر، خرج دون ترغيب وترهيب ودون حشره في الحافلات الصفراء عنوة وهو الذّي كان دائما مشدودا لإذاعة صوت العرب ،متابعا ومستمعا وفيا لخطب الزعيم يهتدون بهديها ويسترشدون بنصائحه وكلماته ،فتخلو شوارع تونس من المارة التي لم تمتلئ بالأمواج البشرية إلا إستقبالا لعبد الناصر سنة 1963 ورفضا لتنحيه عقب خطاب 09 جوان 1967 وتوديعا له لمثواه الأخير غرة أكتوبر 1970.

ولئن أحيي مسلسل "ناصر" ذاكرة شعبنا ونشطها مستحضرا ذلك الزمن الجميل ،فإن مأخذه الوحيد على المسلسل أنه لم يشر لهذه العلاقة ولا للقاء عبد الناصر بالزعيم القومي الشهيد صالح بن يوسف الذي إختار قاهرة عبد الناصر قاعدة لمقاومة الإستعمار الفرنسي وتحرير كافة أقطار المغرب العربي ،وكيف حذّر عبد الناصر صالح بن يوسف من مغبة مغادرته القاهرة خوفا على حياته إلى أن استهدفته رصاصات الغدر البورقيبي بألمانيا سنة 1961،ثم تلى ذلك حملة إستهداف الناصريين بتونس وملاحقتهم واحدا واحدا ،وأصبح كل من يحمل صورة عبد ناصر أو يعلقها ببيته أو مكتبه مدانا ومرميا بالسجن قبل أي تحقيق ومحاكمة !!...محطات تاريخية من دور عبد الناصر في تونس تم إغفالها ،وهذا مقبول لأن السيرة الذاتية لعبد الناصر لا يمكن إختزالها دراميا في 30 حلقة فقط على كثرة وحجم محطاتها التاريخية وتعددها من خطب ولقاءات وزيارات مما يجعل من إنجاز جزء ثاني للمسلسل ضروري جدا لإضاءة الجوانب المضيئة من دور عبد الناصر في تحرير شعب المغرب العربي من نير الإستعمار وإماطة اللثام عن الجوانب المعتمة التي حاولت وتحاول الأنظمة الإقليمية الفرنكوفونية طمسها عمدا،فهي تسعى جاهدة بالتحالف مع قوى الإستعمار والصهيونية إنهاء عبد الناصر المشروع بعد أن أنهت عبد الناصر الإنسان وأزاحت شخصه عن المسرح السياسي،فيأتي نجاح المسلسل في تونس وفي أي مكان ردا موضوعيا ومنطقيا على مشاريعها المشبوهة المستهدفة لشعبنا في كل مكان ،نجاح عكسه حجم المشاهدة إذ تم إختياره من بين سبعة الأعمال الدرامية الأكثر مشاهدة خلال شهر رمضان ،وكان البعض يشاهده مرتين في اليوم عند الإفطار وآخر الليل،وحجم الإقبال المتزايد على شراء الأجهزة اللاقطة"الدّش" كما يسمونه إخوتنا بالمشرق العربي وكذلك حجم الجدل والنقاشات والكتابات التي إنطلقت منذ الإعلان عن فكرة إنجاز المسلسل إلى اليوم وحجم الومضات الإشهارية المتقطعة أثناء عرض المسلسل والتي إستغرقت ثلث زمن عرضه تقريبا والذّي يؤكد وأن القنوات التي راهنت على عرض المسلسل – وهي في الأغلب قنوات أرضية حديثة ومغمورة- كسبت الرهان وربحت تجاريا وإعلاميا بأن إنضاف ملايين العرب الجدد لقائمة مشاهديها .

حقق مسلسل "ناصر" هذا النجاح الباهر على عكس ما تمناه البعض وأسقط عنهم ورقة التوت الأخيرة ،بالرغم من قرار المنع والحجب الذّي لم يكن حكرا على القطر المصري ،فقد إمتنعت قناة تونس 7 الفضائية وقناة 21 الفضائية الحكوميتين وقناة حنبعل وحنبعل الشرق الفضائيتين الخاصتين عن بث المسلسل طيلة شهر رمضان المعظم بالرغم من أن قناة 21 تبث مسلسل "نور " التركي الذّي أجمع جميع النقاد والفنانين والمخرجين أنه ضعيف فنيا و قمة في التفاهة والسذاجة والتسطيح لا يترك إلا أثارا سلبية ومدمرة لدى الشباب العربي مما جعل عديد الأئمة يفتون بتحريم عرضه!!،وكذلك عرضه لمسلسل "صيد الريم " التونسي الذي لا يقل تفاهة عنه ميزته الوحيدة كثافة العبارات البذيئة والمبتذلة المستعملة في الحوار والإيحاءات الجنسية المباشرة ،وإن كان التلفزيون المصري إشترى مسلسل "نور" بمبلغ خمسة ملايين جنيه(حوالي مليار دينار تونسي) فبكم إشترته قناة 21 التونسية؟!! فهل أصبح المواطن التونسي يشتري مسلسل تافه من مال الضرائب التي يدفعها لكي يساهم في إنحطاط وتخلف شبابه وتخريب عقول جيل كامل؟ولا أعرف بالضبط ما هو تبريرهم لذلك ؟أكيد لن يبرروا ذلك بأن مسلسل"ناصر" لا يتماشى مع شهر رمضان الذّي يتطلب أعمالا درامية خفيفة كمسلسل "نور" – كما بررت الحكومة المصرية قرار المنع- ،و إن وجد فهو تبرير تافه كتفاهة أغلب المسلسلات التي عرضوها ،مردود على أصحابه لسببين ،أولا أنه سبق لجميع الفضائيات التونسية خصوصا والعربية عموما بث مسلسلات تاريخية جادة في شهر رمضان المنقضي ورمضان السنة الفارطة على غرار مسلسل "أبو جعفر المنصور " و مسلسل الملك "فاروق" وثانيا أنه ليس من مهام الفضائيات الحكومية عرض المسلسلات المنحطة وترويج الأعمال التافهة الممتلئة بمشاهد العري وشرب الخمر وتبرير القيام بجميع الموبقات دراميا في شهر رمضان المعظم شهر العبادة والتقدوى والتقرب إلى الله عز وجل حتى وإن كان في سبيل الترويح على النفس وإسعاد الناس بعد يوم كامل من الجوع والعطش فالضرورات هنا لا تبيح المحظورات ،لأنه لا يتم دفع الضرر بضرر أكبر منه !!.

الحقيقة الثابتة الوحيدة أن إمتناع أغلب الفضائيات العربية الحكومية والخاصة على السواء عن بث مسلسل "ناصر" سببه سياسي بحت ،فهؤلاء حكام أنظمة سايكس /بيكو لا تريد للشعب العربي أن يقيم مقارنة بين شخص جمال عبد الناصر الميت عند الله ،الحي في قلوب الملايين ،وبينهم الأحياء على الأرض الأموات في قلوب الشعب العربي ،وقد هالهم كيف يستطيع عبد الناصر حيا وميتا تجميع الملايين حوله وهم لا يستطيعون تجميع عشرها ولو إستعملوا أساليب الترغيب والترغيب وجميع أجهزة أنظمتهم القطرية ،وكانوا يعتقدون خطأ أنهم يمنعون الشعب بذلك من إستحضار ذلك الزمن الجميل ،زمن العزة القومية والكرامة ورفع الرؤوس والصوت عاليا في وجه قوى الإستعباد والإستغلال والتجزئة والظلم لزمنهم الردئ زمن الإنبطاح والفساد والإستبداد والتخلف وبيع الأرض والعرض بالمليم الرمزي والإستسلام للعدو ولقوى الإستغلال العالمية الممتلئة بطونهم بقوت الفقراء وعرق الفلاحين والعمال ودماء الشهداء .فالفرق واضح بين حاكم عربي من ذلك الماضي الذي لا يمضي رفع صوته عاليا مدويا :"إرفع رأسك يا أخي فلقد ولّى عهد الإستعباد" وبين حكام عرب هذا الزمن الذين لا يتورعون أمام عدسات المصورين على مد أياديهم لشعبهم الفقير لكي يقبلها ويلثمها وهو راكعا في مشهد مقرف يقطر عبودية وإذلالا ولا تخجل فضائياتهم من تكرار عرضها يوميا،،وقد لا تجوز المقارنة أصلا بين زمانين مختلفين متضادين بعيدين عن بعضهما البعض بعد السماء على الأرض وكيف نقارن بين الثرى والثريا؟ فالمقارنة تحصل بين شيئين قابلين للمقارنة أصلا ،وبمجرد قبولنا بمبدأ المقارنة مع هؤلاء نكون قد أجحفنا في حق عبد الناصر الإنسان والمشروع وفي حق أمتنا العربية التي قال عنها بدر شاكر السيّاب وجعل قدرها من قدر جمال عبد الناصر :

هذا الذّي حدثتنا عنه أنفسنا ***في دهياء نبلوها وننتظر

هذا الذّي كل سحق لبذرته*** بالخيل الروم والذابلات التتر

يا أمة تصنع الأقدار من دمها ***لا تيأسي إن عبد الناصر القدر.

إن ما خلفه نجاح مسلسل "ناصر" بتونس وإن كان في جانب منه نتيجة طبيعية لشخصية عبد الناصر الآسرة ،التي مازالت حاضرة في سواعد عمال الشرقية ومناجم قفصة.. وفي صمود موقوفي أهالي الحوض المنجمي ،وفي عرق فلاحي الريف التونسي من بنقردان لبنزرت ،وفي محاضرات الطلبة وكتبهم، وفي كتابات الباحثين والمثقفين وفي مرافعات المحامين ...وهذا دليل ساطع على تمسك شعبنا العربي بالمشروع القومي الناصري لبناء دولة العرب الواحدة ذات الأفق الإشتراكي الديمقراطي وتحرير الأراضي العربية المحتلة ،إرتباطا بالقومية العربية التي قال عنها جمال عبد الناصر نفسه أنها هي التي خلقته ،فهي موجودة قبله ومازالت بعده باقية جذوة متقدة ،وليس هو الذي أثارها بل هي التي حملته بقوتها الهائلة ليكون أداتها المنفذة ويدها الطولى ،ولو لم يكن عبد الناصر موجودا لخلق غيره ،فهي كامنة في ملايين الشعب العربي تيارا لا يمكن مقاومته ولا تستطيع أي قوة في العالم تدميرها لتظل راياتها خفاقة دوما ،وعلى كل مؤمن بهذه الثوابت العظيمة تحويل التيار الواسع العريض إلى حركة سياسية ناصرية خالصة شكلا ومضمونا،فنتدارك بذلك بعض أخطاء التجربة ولعل أهمها غياب حزب قومي ناصري في عهد عبد الناصر،فهذه هي الناصرية ،مشروع وحدوي مؤسساتي ،متجدد زاخر بعناصر الحياة والنمو والتطور ،ثائر على ما هو موجود لتحقيق المنشود بدون أن يتحول إلى كهنوت جامد يسبح في الغيب والوهم ،فالذّي يتجمد عند زمن معين لا يتسع له أي مكان ويجد نفسه خارج التاريخ،فيتجمد بجمود الماضي الذّي بمجرد وقوعه ينفلت من إمكانية التغيير،والناصرية لا ترتكز على الأشخاص حتى وإن كان شخص عبد الناصر نفسه بل على المؤسسات والمبادئ الثورية التي تأخذ في الإعتبار الواقع القطري التونسي والواقع العربي والدولي ...والصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود لا صراع حدود،وحتى لا يتم إختزال القومية والناصرية في صورة عبد الناصر تعلق على الجدران وترفع في التظاهرات أو في نقاشات نظرية ميتافيزيقية فقط أو في عمل درامي يروي سيرته الذاتية الزاخرة بالإنجازات العظيمة على إيجابيات الرجل وعصره الكثيرة وسلبياته القليلة العادية،حتى وإن كان هذا العمل ناجحا في حجم نجاح مسلسل"ناصر".

ليست هناك تعليقات: