2008/10/12

ليس شرطا أن يكون الانسان ناصريا لينصف عبد الناصر





محمد عبد الحكم دياب

ما تكاد موجة من موجات 'الشيطنة' الموجهة ضد جمال عبد الناصر وكل ما يرمز له تنحسر حتى تنشط أخرى، ولا هو تشيطن ولا تعب المشيطنون ممن وحد بينهم العداء له، رغم تنوع الاتجاهات واختلاف المشارب.

ونحن لا ندعي أن الرجل كان وليا من أولياء الله وأن حضوره الطاغي أحد كراماته. وكل ما في الأمر أنه سار عكس تيار زمانه، وصنع ثورة غيرت معالم المنطقة وصاغت وجدان شعبه من جديد، وعبر عن حقبة ومرحلة تطلبت التغيير واحتاجته، وتعامل مع واقع يئن من وطأة الاحتلال والاستيطان والتجزئة والتخلف والجهل. 11/10/2008

وأشير هنا إلى أن الاستقرار في بلاد الغرب لعدة عقود يجعلنا ندعي القدرة على إصدار حكم أقرب إلى الموضوعية في فهم النهج الغربي في التعامل مع الشعوب والأمم غير البيضاء، ومع قادتها وزعمائها، ممن لم يخرجوا من عباءته، وقدر لهم أن ينحازوا لشعوبهم. بعيدا عن المشروع الغربي وسياساته. بما يعيبها من انحيازات عنصرية وفاشية، وهذا الفهم زاد عمقا بعد أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001، وما تلاها من مغالاة في 'شيطنة' البشر والأرض والقضايا.. كأساس لإشعال الحروب والصراعات، وقاعدة لاستئناف دورات التطهير العرقي والإبادة المنظمة للشعوب السمراء والسوداء والصفراء، خاصة التي تسكن الوطن العربي والعالم الإسلامي، وعملية 'الشيطنة' فيما بعد 2001 امتدت من الزعماء والأفراد والجماعات إلى الأوطان والثقافات والأديان والعقائد والأيديولوجيات وحركات المقاومة السلمية والمسلحة.. الوطنية والقومية والاجتماعية. وينساق أتباع الغرب وأصدقاؤه بيننا، وهم بالملايين، انسياقا أعمى وراء هذا النهج. وما زال عبد الناصر النموذج المثالي أمامهم لـ'الشيطنة'. في ممارساته ونجاحاته وإخفاقاته، ولم تمس هذه 'الشيطنة' يوما جونسون أو بيغن أو شارون، ولا بوش الصغير، وحربه المعلنة ضد فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان، ودعمه للفتن والاضطرابات و'الفوضى الخلاقة' في تلك البلدان وغيرها مثل السودان والصومال وباكستان.

واستغل البعض مسلسل ناصر، الذي تابعه الجمهور العربي في رمضان لإطلاق موجة جديدة لمواجهة ذلك 'الشيطان' المسمى جمال عبد الناصر!!، وفي هذا السياق لم يتحمل كاتب مثل محمد منصور، وهو يتناول المسلسل في زاوية 'فضائيات وأرضيات' ليوم 27/9/2008. لم يتحمل عرض مسلسل نظيف عن سيرته، لأنه، حسب رأيه، خلا من وجود خطأ مسلكي أو نزوع سلطوي أو نزوة عائلية، وكأن مقتضيات العمل الفني تقوم على تغيير وتشويه مسلك التزم به عبد الناصر طوال حياته.. لا يختلف أو يتنافى مع صورته الشعبية، وهنا وقع الكاتب في تناقض واضح عندما اضطر للاعتراف باقتراب الصورة الشعبية من حياته الحقيقية، وعزا ذلك إلى 'تقشفه المالي وخلو تاريخه الشخصي والعائلي من قصص فساد وسلب ونهب وإثراء غير مشروع كالتي عرفت عن رؤساء جاءوا بعده'، والانحياز للحقيقة في المسلسل تحول إلى عمل معيب، ويبدو أن الكاتب أرادها مقدمة تمكنه من رص قائمة مكررة لإدانة الرجل.. شخصا وقيمة وسلوكا. ولم يعترف له بفضل، وعزز موقفه باستعارة عبارة من كتاب 'الطاغية' وصف بها القائد العربي الكبير بأنه كان 'دكتاتورا نموذجيا'، ونسب إليه كل طغاة المنطقة، وذكر أنهم 'خرجوا من عباءته، فهو ناظر مدرسة الدكتاتورية ولا جدال في هذا فهو رجل لم يستطع أحد محاسبته حتى في أكبر الكوارث التي سببها لنظامه'، ودلل على كلامه بوقائع مشكوك فيها تاريخيا. امتلأت بها كتب اعتماد خورشيد ومطبوعات دار 'أخبار اليوم'، وإصدارات أحمد رائف، وبرامج أحمد منصور، وأرشيف الصحف السعودية والصهيونية والغربية. ولو أنه تناول سير هتلر وموسوليني وسموزا وشاه إيران وبوش وشارون ما كال لهم ما كال لعبد الناصر. وسبقه كثيرون وسيلحقه آخرون كل همهم هو اغتيال هذه الشخصية التاريخية، والاغتيال ليس في حقيقته موجها لتصرفاته إنما هو موجه لمشروعه وطموحه، المعادي للاستغلال والاستعمار والاحتلال والاستيطان والتجزئة والتخلف، وانحيازه إلى فلسطين التي كان تحريرها، من وجهة نظره، ضرورة لاستكمال تحرير الأمة العربية وضمان استقلالها ووحدتها وتقدمها.

والملفت أن هذا يتكرر في وقت أعاد فيه كثيرون مراجعة مواقفهم من الحقبة الناصرية كاملة. ومنهم إسلاميون (إخوان وجماعات).. كانوا الأكثر عداء له، وبقي آخرون على موقفهم وفي موقعهم داخل معسكر 'الشيطنة'، ومشكلتهم فيما أثبتت التجربة التاريخية بأن للرجل حضورا ووجودا ما زال يؤرق كثيرين.. لم تتمكن الشيطنة من التأثير عليه أو النيل منه، وأنصفه كتاب وباحثون، ومنهم من لم يحسب يوما عليه أو على مشروعه، وها هو الكاتب الصحافي حمدي رزق يتناول ذكرى رحيله في الثامن والعشرين من الشهر الماضي في صحيفة 'المصري اليوم'، وهو يستعرض مشهد الجنازة عام 1970، وأثر رحيل عبد الناصر على أسرته وهو صغير، ونقل إلينا صورة أمه وهي تنتحب وخروجها، وهي الريفية البسيطة، لوداع حبيب الملايين، ورأى في عبد الناصر حالة زعامة مدهشة، لا تفيه شرحاً الكلمات الكبيرة من قبيل الوحدة وعدم الانحياز وتحدي القوى الأعظم وطرد الملك وجلاء المحتل. 'سَبْر أغوار العلاقة التي تجذرت بين ناصر والبسطاء هي ألق ناصر الخاص، الوقوف على أهداب تلك العلاقة كالوقوف على أهداب الرموش تطرف العين فلا ترى كيف صار الحب نهراً جارفاً'. واردف أن 'ناصر الثورة حالة، وناصر العروبة حالة، وناصر الهزيمة حالة، لكن ناصر والبسطاء أكثر من حالة.. استثناء.. ظاهرة.. بالله عليك كيف خرجت كل هؤلاء النسوة من خلف الرجال من قعر البيوت ليودعن حبيب الملايين؟ هناك سبب أخرجهن، بالطبع لم يخرجهن الاتحاد الاشتراكي، ولسن من نسوته، ولم ينظمهن التنظيم الطليعي، ولسن من حريمه، خروج من أجل الحبيب.. ناصر كان حبيباً'. وانتهى إلى القول 'ليس شرطاً أن تكون ناصريا لتحب ناصر'، ويرى أن الحب كالكره لا تمحوه الأيام، 'ينتقل كالجينات من جد إلى سابع جد، سيأتي جيل بعد قرن من الزمان يذكر يوم28 ايلول (سبتمبر) ـ يوم وفاة الزعيم بكل خير'.

وسبق وحاول الكاتب المصري الأمريكي فرانسوا باسيلي، تفسير ما أسماه 'لغز الألغاز'.. في ظاهرة الحضور الطاغي لعبد الناصر في وجدان الشعب رغم مرور سنوات طويلة على رحيله، وجاء في مقال له نشر في شباط (فبراير) الماضي بـ'القدس العربي' بعنوان: 'لغز الألغاز: لماذا لا يموت عبد الناصر؟' كيف أنه حي في ذاكرة الشعب التي لا تنسى المخلصين من أبنائها، وفي محاولته لفك هذا اللغز قارن بينه وبين من سبقوه ممن كانت لهم أدوار تاريخية في زمانهم، وأرجع ذلك إلى أن عبد الناصر 'تحول إلى تيار فلسفي وسياسي واجتماعي واقتصادي متكامل يُعْرَف به، لهذا تحول إلى ظاهرة فريدة في تاريخ العرب الحديث'.. فيه من نابليون الذي لم يسقطه الفرنسيون من ذاكرتهم وغفروا له هزيمته وقدروا فيه تقديره للعلم والعلماء والثقافة والتاريخ. بالإضافة إلى ما في عبد الناصر من شجاعة شخصية فائقة، مع الفارق بين شخصية نابليون العسكري وشخصية عبد الناصر الثائر، وفيه من ديغول استقلاليته.. بعيدا عن الغرب الأمريكي والشرق السوفييتي، وكرامته واعتزازه بنفسه، وكانت شدة الاعتزاز بالنفس من أهم عوامل الجذب في شخصية عبد الناصر، وقد رحل بعد أن حقن الدماء العربية الناجمة عن صدام الجيش الأردني بقوات المقاومة الفلسطينية، وضرب أمثلة من شجاعته فيما أورده باسيلي عن رفض الاستسلام في حصار الفالوجة، وبقي مقاوما صامدا لشهور حتى توقيع اتفاقية الهدنة في شباط (فبراير)، 1949. وقتها كان ذلك، في نظر السياسيين والعسكريين، ضربا من الجنون، ورأى شجاعته في حادث المنشية وفي تأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي، وكان بعض زملائه في مجلس الثورة يعتبرون دعوته لمقاومة العدوان انتحارا، وموقفه هذا أشعل جذوة المقاومة في الشعب. وأشار إلى أن الشجاعة ليست صفة مكتسبة بل فطرة تولد في الإنسان وتصقلها الخبرة وتجارب الحياة، وتقف وراء الأفعال الجسورة. وتطرق الكاتب لصفة العفو عند المقدرة لديه، التي وجدت تجسيدها في الموقف من الملك السابق فاروق.. رفض محاكمته وإعدامه وتركه يذهب إلى حال سبيله، وإلى المنفى الذي اختاره لنفسه. وهو القارئ النهم والمتابع لكل الثورات.. ويعلم أنها قتلت ومثلت بمن ثارت عليهم.

وذكرنا الكاتب الكبير الصديق سمير كرم بأهم سبب وراء موقف السياسة الأمريكية المعادي، وأورد تصريحا قديما للأمير نوردوم سيهانوك حاكم كمبوديا، الذي أطاح به انقلاب دبرته الإدارة الأمريكية لمصلحة حربها في فيتنام 1971، عندما التقاه في الصين في نهايات عام 1973، ونشر ذلك في صحيفة 'الأخبار' اللبنانية منذ أيام. وينقل على لسان الزعيم الكمبودي: 'الشيء الذي لا يعرفه العالم، بل يبدو لي أنه يقاوم معرفته، أن كراهية الولايات المتحدة والساسة الأمريكيين للقومية بشكل عام وأينما وجدت تفوق كراهيتها للشيوعية'.. أي أن هذه الكراهية من أهم أسباب 'شيطنة' الزعماء القوميين، وبالقطع فإن عبد الناصر في طليعتهم! ولا يستثني سمير كرم الحرب الأمريكية على الإسلام والعالم الإسلامي، وهي تحمل اسم الحرب العالمية ضد الإرهاب. باعتبار الإسلام نوعا خاصا من القومية، حتى وإن لم يدرك أصحاب هذا التيار هذه الحقيقة، على حد قوله، مستلهما ذلك من تصريح سيهانوك!.

هذا الغائب الحاضر لم تفلح معه 'الشيطنة'.. لم تحد من حضوره عمليات اغتيال الشخصية، ولن تمنع الجموع من التطلع إلى أيامه، التي كانت فيها الأمة العربية على قلب رجل واحد. يكدح بيد ويقاوم باليد الأخرى، وهؤلاء لن يكفوا، ولن يقلعوا عن عادتهم، ولن تتوقف حملاتهم مهما طالت السنين.. إنهم يواصلون 'الشيطنة' لأكثر من خمسة عقود، منذ أن ظهر عبد الناصر على مسرح السياسة المصرية والعربية والعالمية في خمسينات القرن الماضي، ولن يثنيهم نصح، ولن يردعهم عقاب، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا!


ليست هناك تعليقات: