2008/10/05

مرحلة التقسيم الناعم : ما يريده الاحتلال هو كردستان ـ شيعستان ـ سنستان . ونحن ماذا نريد؟



هل بدأت كردستان رحلة الانفصال النهائي عن السلطة المركزية في بغداد؟ القانون الذي أقره البرلمان العراقي يوم الاربعاء الفائت لاجراء الانتخابات المحلية, والذي استثنى كركوك واربيل والسليمانية ودهوك من الخريطة الانتخابية, اعتبر هروباً من حل مشكلة كركوك الى تكريس قانوني لوضع كردستان الخاص التي تسعى الى الفدرالية اذا ما تعذر الانفصال. (الكفاح العربي) قرأت في التشريع العراقي الاخير بداية انعطاف حقيقي نحو نظرية التقسيم الناعم, بعد جولات الحرب المذهبية التي أعادت تعريب العراقيين استناداً الى طوائفهم واتنياتهم, كما أفرغت بغداد من معظم أهاليها السنة.

يتفق الكتاب الأميركيون ومعظمهم من الساسة المعمرين إلا القليل منهم على أن العودة إلى نظام مركزي في العراق باتت شبه مستحيلة, وأن نظاما سياسيا جديدا يجب أن يحكم عراق ما بعد صدام, لكنهم يذهبون مذاهب شتى حول طبيعة النظام السياسي المقترح. منهم من دعا إلى الفدرالية وان اختلف دعاتها في التفاصيل, ومنهم من يدعو إلى الكونفدرالية, ومنهم من يستسيغ التقسيم, وقد ظهرت في الآونة الأخيرة تسريبات إعلامية تفيد أن تقريرا للاستخبارات الأميركية أوصى بتعيين أحد الجنرالات العراقيين ليكون قائدا للبلاد في حال فشل الحكومة الوطنية.

وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما يقدمه هؤلاء المنظرون فانه يشكل وجهات نظر سائدة في دوائر صنع القرار الأميركي وقد تتحول أي من هذه الأفكار إلى واقع بين يوم وليلة. من هنا تأتي أهمية محاولة تفهمها واستيعابها, ومن ثم تحديد أسلوب التعامل معها فكريا او على صعيد الواقع السياسي. في هذا البحث نحاول استعراض تلك المقترحات, وما أثير حولها من مواقف وردود, لنرى مدى جديتها وفائدتها للعراق.

أولا: النظام الكونفدرالي

يقول هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا الأسبق ّاننا في وضع صعب جدا لأننا نحارب تمردا وسط حرب أهلية. ومن دون شك, فقد وقعت أخطاء كبيرة, لكن ذلك لا يساعدنا الآن كي نركز عليها, لذلك فإن ما يجب تجنبه هو ظهور نظام شبيه بنظام طالبان في جزء من العراق أو بروز نظام أصولي جهادي, حتى لو لم يكن على نمط نظام طالبان أو على نمط النظام الإيراني. ومن هنا فعلينا أن نتجنب وضعا نكون فيه الطرف الوحيد الذي يسعى إلى إطفاء الحرائق من دون الوصول إلى مصادر الاشتعال.

ويضيف كيسنجر: هناك بالطبع التساؤل القائم والمشروع, وفحواه: هل وصلنا إلى النقطة التي علينا أن نختار للعراق أمرا من اثنين: الديمقراطية أو الاستقرار؟ الاجابة هي نعم. بل إنها حقيقة واقعة, وتقديري هنا أنه كان تصرفا ملائما أن تقف أميركا مع الديمقراطية. فأميركا لا تستطيع أن تذهب إلى منطقة ما لتقول إن كل ما نريده هو الاستقرار. لكن يجب تعديل الفترة الزمنية, التي في أثنائها يمكن تحقيق الأهداف ودرجة مشاركة أميركا بشكل مباشر فيها, وفق التجربة والظروف. إن فرصة ايجاد طرف سياسي في العراق قادر على تحقيق الاستقرار أصبحت متأخرة الآن, ذلك لأننا وإذا أخذنا احتلال ألمانيا واليابان مثلا , لوجدنا أن هذين البلدين لا يصلحان أن يكونا نموذجا للعراق. ففي كلا البلدين لم تتعرض مؤسسات الدولة للتغيير باستثناء ربما 10 من المسؤولين في القمة, هذا بالنسبة الى المانيا. أما في اليابان فحتى نسبة التبديل كانت أقل من هذا الرقم. ولم تكن هناك مشكلة أمن داخلية في ألمانيا أو اليابان. لذلك فهما بعيدان جدا عن أن يكونا نموذجا لهذا الوضع. وفي العودة الى العراق والمعادلة التي سيستقر عليها الوضع فيه, أظن أن نظاما كونفدراليا بصلاحيات محدودة جدا النظام المرجح ظهوره في العراق هو كونفدرالية لوحدات تتمتع باستقلال ذاتي كبير هو الحل الأخير.

ثانيا: دولة فدرالية قوية

في الرابع عشر من شهر تموز الماضي شكلت القناة الرابعة البريطانية بالتعاون مع مركز السياسة الخارجية لجنة مستقلة غير حزبية تهدف إلى دراسة الوضع في العراق وبحث سبل الخروج من الأزمة المستفحلة هناك. وقد أعترف تقرير اللجنة البريطانية على نحو لا لبس فيه, بأنه لم يتبق في العراق سوى خيارات مؤلمة, لكنه أقر أيضاً بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تتحملها بريطانيا إزاء بلد شاركت في غزوه. ومع ذلك فان التقرير لا يدعو إلى انسحاب أحادي وغير منظم للقوات البريطانية من العراق, كما يشير إلى الخيارات المحدودة التي تملكها لندن في هذه الفترة. وعلى غرار مجموعة دراسة العراق الأميركية, يشدد التقرير البريطاني على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية, وفي الوقت نفسه العمل على إرساء دولة فدرالية قوية. المصدر: جيفري كمب, العراق والخيارات المؤلمة.

ثالثا: الفدرالية مقدمة للتقسيم

حسبما جاء في تقرير البنتاغون بعنوان (قياس الأمن والاستقرار في العراق) فإن الوضع الأمني يمر في اكثر حالاته تعقيداً منذ بدء (عملية حرية العراق) يعني منذ الغزو في آذار 2003, فالولايات المتحدة تواجه كلا من التمرد السّنّي, الذي وصفه التقرير بأنه شرس وقابل للحياة, وتكاثُر الميليشيات الطائفية وعمليات القتل العرقية مذهلة لمقدرتها على توفير الأمن والاستقرار الاقتصادي, قائلة انه يُنظَر إلى الجماعات المسلحة المحلية غير الشرعية, باعتبارها المصدر الرئيس لتوفير الأمن والخدمات الاجتماعية الأساسية.

ويقول التقرير إن هذه الجماعات أصبحت متحصنة في كل من شرق بغداد الشيعي, وغربها السّنّيّ, واختتم بالقول: إن الظروف التي يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية, قائمة في العراق.

وتثير فكرة الميليشيا المتحصنة التي تقسم بغداد إلى شرقية وغربية, في الذهن على الفور, شبح بيروت خلال حربها الأهلية بين 1975 ­1990. وتقول وزارة الدفاع الأميركية إن العراقيين يشتركون معها بصورة متزايدة في هذه المخاوف, وتلفت النظر إلى أنه ليس في بغداد فقط, بل وفي منطقة الفرات الأوسط جنوب بغداد, وفي المنطقة المحيطة بالبصرة, الميناء العراقي في الجنوب, تسود بين العراقيين, المخاوف المتزايدة بشدة, من حرب أهلية شاملة. وجيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر, لا يقرّ له قرار, ويبدو جاهزاً لاطلاق انتفاضة ثانية, كما فعل سنة 2004 وهو نفسه تكتنفه الانقسامات الخطيرة, وتتخلله العناصر المسلحة, والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق, يضغط بشدة من أجل تقسيم العراق الذي يدعوه فدرالية وقد طرح أحد زعمائه الذي صودف أنه وزير التربية والتعليم في العراق سيناريو حرب أهلية شاملة. وقال: ان الفدرالية سوف تعزل جميع أجزاء البلاد التي تحتضن الإرهابيين. وأضاف: سوف نضع الجنود على طول الحدود.

ومما يعمق الانقسامات بين الشيعة, ظهور أمير حرب جديد, هو محمود حساني, الذي أنشأ جيوشاً خاصة في النجف وكربلاء والبصرة وبغداد, والذي يعارض بعنف, المجلس الأعلى للثورة الاسلامية وجيش المهدي بزعامة الصدر. ويبرز حساني, الذي يعارض الولايات المتحدة أيضاً, ويكره ايران, كزعيم شيعي وطني يمكن ان يزعزع الوضع الشيعي الراهن برمته.

اين الأكراد

أما الأكراد (المزعجون), فهم يهددون بالانشقاق علناً فقد قال مسعود البرزاني, الذي يشكل السلطة الحقيقية في كردستان, متحدّياً: إذا أردنا الانفصال, فسوف نقوم به من دون تردد أو وجل. وإذا بدأ الأكراد عمليتهم المتوقعة على نطاق واسع للاستيلاء على كركوك وحقول النفط العراقية الشمالية, فسوف يشعل ذلك فتيل تصعيد عظيم للحرب الأهلية في العراق, إذا كان الأكراد نالوا كل مطالبهم وحققوا طموحاتهم الخاصة بالفدرالية واللغة الكردية بالنظر إلى الظلم الذي وقع عليهم طيلة الفترة السابقة, فقد أدت الامتيازات العدة التي حصل عليها الأكراد إلى إغضاب السنة, خصوصا في ما يتعلق بمسألة الفدرالية التي يعتبرونها الطريق المفضي إلى تقسيم العراق وتهديد وحدته.

ورغم شعارات الاخوة والوحدة الوطنية التي ينادي بها الزعماء السياسيون من عرب واكراد على حد سواء, فان علامات الاختلاف تبدو واضحة في كثير من الحالات, فالميليشيا الكردية المسلحة التي تضم اكثر من خمسين الف مقاتل يجري توزيعها حاليا على الجيش العراقي الجديد وقوات الشرطة وحراس الحدود, لكن هؤلاء الأفراد ما زالوا يحملون على بزاتهم الرسمية الجديدة علم كردستان وليس العلم العراقي الرسمي, ومن المرجح انهم سيتحولون إلى جيش داخل الجيش النظامي يمكن بكل سهولة دعوته إلى القتال دفاعا عن كردستان اذا ما اقتضى الأمر.

لكن هذه التطلعات والاختلافات لا تجد طريقها إلى الموقف الحالي الذي يتخذه الزعماء السياسيون الأكراد. رغم الامكانات العديدة التي تجعل الاستقلال في متناول أكراد العراق, فان زعماءهم السياسيين يرون أن الوقت غير ملائم لذلك بسبب الضغوط الشديدة التي تمارسها جارات العراق ذات الاقليات الكردية وفي مقدمتها تركيا. لكن من يتجول في الشارع الكردي يلمس بوضوح أن الموقف الرسمي الكردي بات متعارضا مع إرادة العديد, أن لم نقل الأغلبية, من الأكراد العاديين.

رابعا: نظرية التقسيم الناعم

كتب جوزيف بايدن المرشح لمنصب نائب الرئيس الى جانب جون ماكين, وعضو مجلس الشيوخ الأميركي ونائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية مقالا قال فيه: قبل أربعة أشهر عرضت في مقال لي مشاركة مع الرئيس المتقاعد لمجلس العلاقات الخارجية خطة مفصلة للمحافظة على وحدة الصف العراقي, وحماية المصالح الأميركية, وإعادة الجنود الأميركيين إلى وطنهم. وقد تبنى عدد كبير من الخبراء الأفكار التي طرحناها, ومنذ ذلك الوقت جعلت الأحداث المتلاحقة التي تشهدها الساحة العراقية تلك الخطة أكثر إلحاحا ومناسبة للتطبيق عن الوقت السابق الذي عرضت فيه. فالحقيقة الجديدة الجوهرية في المشهد العراقي هي تزايد العنف بين الشيعة والسنة وتجاوز خطره ما عداه من الهجمات التي ينفذها المسلحون حيث بات هو التهديد الأساسي الذي يواجه العراق. ويبقى الطريق الوحيد للحفاظ على العراق وتوفير الظروف الملائمة لسحب قواتنا من العراق متمثلا في تقديم حوافز ومبادرات للشيعة والسنة والأكراد تلبي مصالحهم في إطار سلمي وتدفع في اتجاه إرساء قواعد وضع سياسي مستقر. والخطة التي طرحناها تتألف من خمس نقاط تعرض خيارا أفضل.

أولا: تدعو الخطة للمحافظة على العراق موحدا بتطبيق اللامركزية ومنح الأكراد والشيعة والسنة أقاليمهم على أن تترك المصالح المشتركة مثل أمن الحدود وتوزيع عوائد النفط للحكومة المركزية.

ثانيا: يلتزم السنة بالاتفاق على أساس ضمان حصتهم في عوائد النفط وتمنح كل مجموعة حوافز خاصة لرفع إنتاج النفط الأمر الذي يجعل من النفط رابطا يجمع أقاليم العراق معا.

ثالثا: تضع الخطة برنامجا ضخما لتوفير وظائف في الوقت الذي تزيد فيه من مساعدات إعادة الاعمار خاصة من دول الخليج على أن تربط ذلك بحماية مصالح الأقلية.

رابعا: توجه دعوة الى عقد مؤتمر دولي لتوقيع معاهدة إقليمية لعدم وقوع اعتداءات وتشكيل مجموعة اتصال لفرض الالتزامات الإقليمية.

خامسا: تبدأ عمليات ممرحلة لإعادة انتشار القوات الأميركية خلال العام الحالي على أن يتم انسحاب معظم هذه القوات بينما تظل قوة محدودة لمتابعة التزام الجيران وللتصدي لأي تجمعات إرهابية. وعلى هؤلاء الذين يرفضون هذه الخطة أن يجيبوا عن سؤال واحد بسيط: ما هو البديل؟

وقد طرحت مجموعة من الأسباب لتبرير فكرة التقسيم الناعم من بين هذه الأسباب, كما ورد في مشروع بايدن ما يأتي: اليوم يرتفع العلم الكردستاني في سماء كردستان, وليس العلم العراقي, بينما يتحدث الأطفال لغتهم الكردية الأصلية في نظامهم التعليمي, ويتعلمون الانكليزية وليس العربية كلغة ثانية. إلى ذلك يجني الإقليم فوائد مالية كبيرة من الاستثمارات التركية المتدفقة عليه, فضلاً عما يجنيه من موارد هائلة تضخها عليه السياحة. أما المنطقة الجنوبية من العراق, لا سيما مدينة البصرة والأجزاء المتاخمة لها, فقد تحولت افتراضاً إلى ما يشبه الدولة الشيعية خلال العامين الماضيين, ورغم أنها ليست بالعنف الذي تتسم به بغداد, فإن البصرة تخضع عملياً لحكم مجموعة من الميليشيات الشيعية التي تخوض حرباً شرسة ودامية فيما بينها لفرض هيمنتها على الموارد النفطية الهائلة المتوفرة في الجنوب العراقي. ووفقاً لدراسة أعدتها مجموعة الأزمات الدولية اخيراً, فإن مدينة البصرة, تعد حالة نموذجية لدراسة تعدد وتنامي أشكال العنف المنتشرة في العراق اليوم.والمؤسف ان لا علاقة تذكر لنشاط وأهداف هذه الميليشيات, بالعنف الطائفي من حيث هو, أو بالمقاومة الوطنية للاحتلال الأجنبي. وجاء في الدراسة المشار إليها أن فترات الاستقرار النسبي, لا تعكس وجوداً كبيراً للسلطة الحاكمة بقدر ما تعكس حالة التوازن الهش والنسبي البادي الآن, بين المصالح المتضاربة المتنافسة فيما بينها, وكذلك حالة الإرهاب الجاري بين الميليشيات المتناحرة.

آليات التنفيذ

وكتب بايدين وغيلب في مقالة الرأي التي نشرت في 1 أيار مايو 2006 إن هذا التقسيم يمكن تطبيقه مع محليات غير قابلة للمقاومة من قبل السنة فهي خطة تستدعي سحب الجيش واعادة تموضع القوات الأميركية وتوقيع معاهدة عدم اعتداء إقليمية. وتقر الخطة بما يقوله الخبراء في الشرق الأوسط ان الشيعة والسنة العراقيين لا يسيرون نحو التصالح ومازالوا غير قادرين على تمرير قانون النفط وعملية التطهير الطائفي جارية حيث يفر السنة من المناطق ذات الأغلبية الشيعية ويفر الشيعة من المناطق ذات الأغلبية السنية. اما معوقات خطة التقسيم الناعم فتتمثل في أنه يتعذر على استراتيجية (الفصل الناعم) هذه أن تترجم إلى واقع فعلي ملموس في التربة العراقية, من دون الحصول على الموافقة الضمنية عليها, من قبل الدول المجاورة للعراق, لا سيما تركيا وإيران. على أنها وفي كل الأحوال, تظل استراتيجية محفوفة بالخطر والمغامرة. إلى ذلك تظل الاستراتيجية مثيرة لخيبة الآمال, كونها تعد انحرافاً عن الخطة الأصلية التي حركت دعاة الغزو في واشنطن في العام 2003, إذ كان المبرر والأمل, هما بناء عراق موحد, علماني وديمقراطي مزدهر. فتلك هي الأهداف التي عكفت على صياغتها إدارة جورج بوش, قبيل خوضها مغامرتها العسكرية في صيف العام 2003. لكن الآمال ضمرت وتواضعت عملياً إلى حد القبول بعراق ممزق الأوصال, وأبعد ما يكون عن الوحدة والديمقراطية والعلمانية؟ لكن ووفقاً لمبدأ الأخذ بأخف الضررين, فربما كان الفصل الناعم للعراق, خياراً واقعياً مفضلاً على ترجيح استمرار دوامة العنف الدائرة فيه حالياً, وربما كان خياراً لدرء تدخل عسكري خارجي في شؤونه من قبل جيرانه المتربصين به من جميع الجهات.

لكن هذه القراءة ليست الوحيدة بطبيعة الحال, قبل عام, كان العنوان الرئيسي لعمود جورج جشمه لصحيفة غلف نيوز المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط (خطة التقسيم مرفوضة) وقال أن كلمة تقسيم في ذاتها لها وقع سيئ على الآذان العربية وتعيد إلى الذاكرة خطة تقسيم فلسطين التي أدت إلى إيجاد دولة إسرائيل. وأشار خبراء السياسة الخارجية الاميركية أيضا إلى أن تقسيم العراق يمكن أن يسفر عن مذابح دموية في المناطق المدنية. فرغم أن السنة يشكلون الغالبية الساحقة في الجزء الغربي من العراق والأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب, إلا أن المدن العراقية ليست متجانسة ديمغرافيا, فبغداد والموصل وكركوك لا توجد فيها خطوط جغرافية واضحة تفصل بين المكونات الرئيسية الثلاث. أو على الأقل لم تكن في السابق, ولكن حقيقة الأمر حاليا أنها أصبحت اكثر تجانسا لأن السكان المرعوبين فروا من المناطق التي لا تهيمن عليها طائفتهم, فالضواحي الواقعة على أطراف بغداد شهدت الكثير من التطهير الطائفي. رسميا يقول المسؤولون في إدارة بوش انهم ملتزمون بموقف بوش الذي يأمل أن تتمكن القوات الأميركية المعززة بأعداد اضافية من كبح العنف وخلق الظروف السياسية للشيعة والسنة والأكراد للتوصل إلى حل سياسي, لكن الشهادات والمقابلات حول الظروف السائدة في العراق أشارت إلى أن الادارة الأميركية شرعت فعليا في اتخاذ خطوات فعلية نحو التقسيم. فوزارة الخارجية تحديدا شددت على اقتراح تشكيل فرق بناء مناطقية في المحافظات العراقية بهدف تقوية زعماء القبائل المحلية, وهذا في حد ذاته يؤشر نحو إلغاء مركزية سلطة الدولة في العراق. من باب التحذير يقول خبراء ان التقسيم الناجز للعراق لن يكون أمرا هينا ويتطلب مشاورات حذرة مع جيران العراق ومن بينهم إيران والسعودية ناهيك عن تركيا التي لها حساسيات قومية حول المسألة الكردية.

وفكرة التقسيم الناعم ليست مرفوضة في المطلق. للوهلة الأولى تبدو هذه الفكرة معقولة كون العراق مقسما فعليا على الأرض من الناحية السياسية والديمغرافية والعرقية والطائفية فالتقسيم يعني جعل هذا الوضع رسميا بما يسمح للأميركيين بإبعاد أنفسهم وترك العراقيين يقتلون بعضهم البعض. والمسؤولون من السنة والشيعة يحتفظون بالمناصب الحكومية والأمنية العليا لأنفسهم تاركين ميليشياتهم تتصارع وتتصادم من أجل السيطرة على الأراضي. من الناحية النظرية فان التقسيم سيسمح لكل جماعة بإقامة حكومتها المصغرة الخاصة بها لادارة شؤونها بنفسها والتخلص بالتالي من العوامل المسببة للعنف الطائفي. والدستور العراقي نفسه يسمح باقامة أقاليم فدرالية مستقلة ذاتيا وغالبية الأكراد ترحب بالوضع القائم حاليا ولا تخفي استعدادها للانفصال في المستقبل إذا سمحت الظروف بذلك. في المقابل نجد أن المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق وهو حزب شيعي يدافع عن إقامة إقليم فدرالي جنوبي. وهناك الكثير من الأطراف الشيعية التي تفضل التقسيم وترى فيه فكرة جيدة التنفيذ على اعتبار ان السنة لن يكفوا عن محاولة السيطرة على الحكومة المركزية, ومن وجهة نظرهم فإن جعل السنة يخسرون هو وحده الكفيل بجعل السلام يستتب وبعض اللاجئين الشيعة الذين فروا من مناطق الغالبية السنية ويعيشون الآن في معسكرات في الجنوب أو خارج البلاد ويأملون في أن يسمح لهم التقسيم بالاستقرار بصورة دائمة في المنازل التي أخلاها السنة الفارون.

والتقسيم ليس بالفكرة المجنونة, فيمكن للبعض أن يقول إن بريطانيا أوجدت (((كيانا سياسيا موحدا أسمته العراق)))؟؟؟ في العشرينيات من القرن الماضي لكن هذا الكيان محكوم عليه بالفشل منذ البداية والشيء الوحيد الذي استطاع الإبقاء على التماسك الظاهري لهذا الكيان هو القبضة الحديدية لصدام حسين, وعليه وإذا كان البديل هو الاختيار ما بين ديكتاتورية أخرى أو حرب مدنية لا تنتهي فإن خيار التقسيم يعد جذابا. وإذا لم تكن فكرة التقسيم فكرة مجنونة فإنها بالتأكيد فكرة سيئة, فالتقسيم لن يكون نظيفا ولن يكون من دون إراقة دماء, فالسنة والأكراد والشيعة موجودون ويتعايشون بصورة مختلفة في الكثير من المناطق بما فيها بغداد وما سبق للعالم أن عرفه من سوابق لا يشجع على ولوج هذا الطريق ومحاولة تقليده. ففي فلسطين والهند ويوغوسلافيا لم يؤد التقسيم فقط للحرب وإنما أدى أيضا لعمليات هجرة واسعة النطاق وسلسلة لم تنته من الحروب. وهناك أيضا التعقيدات الناشبة عن وجود جيران متحفزين للتدخل فالاستقلال للأكراد يعد أمرا مرفوضا من قبل إيران وتركيا.ووجود دولة شيعية أمر مخيف بالنسبة الى السعودية بسبب وجود طائفة شيعية فيها ملاصقة للحدود مع العراق مع ما قد يحمل ذلك من تململ محتمل لهذه الطائفة وما الذي سيكسبه سُنة العراق الموجودون في الوسط إذا حدث التقسيم كونهم يقيمون في مناطق تخلو من الثروة النفطية؟ يعيشون اليوم في خوف دائم. فهناك عمليات قتل يومية تجرى على أساس المذهب وهم لن يهتموا كثيرا بالديمقراطية مقابل استتباب الأمن والنظام وحكم القانون في بلادهم.

ويدفع دعاة التقسيم الناعم للعراق بحجة أن الفدرالية الواهنة ­ القائمة على هذا الأساس العرقي الديني ­ تعكس الواقع الفعلي للعراق, طالما أن الحقيقة هي أنه يستحيل الحفاظ على وحدته, بآلية الدولة المركزية الموحدة, ويقيم هؤلاء حجتهم على العداءات والتحرشات الطائفية العرقية المستشرية بين شتى المجموعات, ومحاولة كل مجموعة ابادة الأخرى وتطهيرها عرقياً ودينياً. ثم يضيف دعاة هذه الفكرة وأنصارها القول, إن هذا الحل ليس أميركياً يراد فرضه فرضاً على العراقيين, وإنما هو فكرة عراقية نابعة من صلب نصوص الدستور الوطني الجديد. غير أن الحقيقة الباقية, رغم كل هذه الحجج, هي أنه بمجرد التفكير في التقسيم الناعم للعراق, هناك قراءة خاطئة للواقع العيني المعاش. كيف؟ الدليل أن العراقيين, رغم محاولات التطهير العرقي والابادة الجماعية التي تستهدفهم, ظلوا خليطاً اجتماعياً, تكثر الزيجات المختلطة بين فئاته وطوائفه, وظل العراقيون قادرين على تشكيل تلك الفسيفساء الاجتماعية, التي لا سبيل لتغييرها إلا بوسائل التخويف والعنف وحملات القتل الجماعي المستمرة. وكما تشير سلسلة استطلاعات الرأي التي أجريت بينهم خلال السنوات الأربع الماضية, أكدت الغالبية العراقية رغبتها في أن تظل بلادهم موحدة. فعلى سبيل المثال, أشار التقرير الصادر عن المعهد الجمهوري الدولي في تموز من العام 2006, إلى أن نسبة 66 في المائة من العراقيين, تعارض فكرة تقسيم العراق, سواء على أساس طائفي أو عرقي. أما اللغة الدستورية الواردة حول صيغة الفدرالية وتوزيع الموارد الطبيعية للبلاد في الوثيقة المذكورة, فقد جاءت انعكاساً لصفقة سرية أبرمت وراء الكواليس, بين التحالف الكردي, وطرف واحد من الأطراف الشيعية, ألا وهو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. اي المجلس الأعلى الاسلامي بتسميته الجديدة. وقد أبرمت هذه الصفقة النهائية, في تجاهل تام لكافة الأطراف الأخرى, وفئات المجتمع العراقي نفسها.

و لا ريب في أن الأكراد يرغبون في الاستقلال باقليمهم, وأن في وسعهم تقديم حجج قوية داعمة لتحقيق رغبتهم هذه. لكن رغم رغبة الاستقلال هذه, فقد دفعت الواقعية السياسية قياداتهم إلى تفضيل البقاء في ظل الوحدة العراقية حالياً. وتستغل الأحزاب الكردية قدرتها السياسية النسبية في زيادة فرصها المستقبلية في الاستقلال. ويفترض ألا تواجه انفصال الإقليم الكردي إلى منطقة استقلال ذاتي, تتمتع بالمزيد من السلطات الإقليمية, أي عقبات أو تعقيدات تذكر, إلا في حال فشل الأكراد في تقديم التنازلات السياسية اللازمة, بشأن السيطرة على مدينة كركوك التاريخية, التي توجد بها نسبة 12 في المئة من احتياطات النفط العراقية الأكيدة. أما موقف المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق فيمثل حالة مختلفة في هذه الصفقة المشار إليها آنفاً. فعلى رغم تمتعه بسطوة سياسية, مردها إلى ميليشياته المسلحة المدعومة من قبل إيران, فإنه يفتقر إلى التأييد الشيعي الداخلي. وللتعويض عن هذا الضعف, لجأ المجلس المذكور إلى اقتراح الصيغة المحددة التي وردت في نص الدستور: ألا وهي إقامة إقليم شيعي كبير يغطي المحافظات الشيعية التسع كافة الواقعة جنوبي البلاد, مع العلم أن هذه المنطقة, تحوي ما يتراوح بين 70 و80 في المائة من احتياطيات النفط العراقي. وكانت تلك الصيغة التي تم تضمينها إلى صلب الدستور, هي التي أثارت الخلاف أو النزاع الطائفي الجاري اليوم, مع ضرورة الإشارة إلى أن هذا النزاع, يشمل الطائفة الشيعية نفسها. وبالنتيجة فقد رفض غالبية التحالف الشيعي, تلك الصيغة, رغم تأييدهم النسبي لفكرة لامركزية السلطات.

أما المسلمون السُنة العرب, فهم ليسوا أقل خلافاً ولا انقساماً فيما بينهم. إلا أنهم يتفقون على أمر واحد, هو رفضهم المؤكد لأي صيغة فدرالية, لا تؤمن لهم نصيبهم من عائدات النفط, بينما تحرمهم تماماً من السلطة. ورغم علمهم أنه لم يعد من سبيل أمامهم اليوم لاستعادة قبضتهم السابقة على جهاز الدولة المركزية القوية, بحكم طغيان الأغلبية الشيعية, إلا أنهم يرفضون في الوقت ذاته, الصيغة الفيدرالية التي مررها إلى الدستور, المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والحال هذه, فإن السؤال الذي لا بد منه هو: اي فدرالية يقصد دعاة التقسيم إذاً؟

لقد كشف استطلاع للرأي العام العربي, أجرته في الآونة الأخيرة مؤسسة زغبي العالمية لاستطلاعات الرأي في خمس دول عربية, هي المملكة العربية السعودية, ومصر, والإمارات العربية المتحدة, والأردن, ولبنان. وشمل عينة من 3400 شخص من الدول الخمس, التي تعد جميعها حليفة للولايات المتحدة الأميركية. عن مشاعر سلبية إزاء الدور الذي تؤديه كل من الولايات المتحدة وإيران حالياً في العراق. وما أن وجه السؤال إلى المستطلعة آراؤهم عما هو الجانب الأكثر إثارة لقلقهم ومخاوفهم إزاء العراق, حتى جاءت إجابات ما يقارب نسبة 50 في المئة منهم:أن يتم تقسيم العراق وتمزيقه إلى ثلاثة أقاليم مستقلة ذاتياً, أو ينحدر إلى حرب أهلية شاملة, تمتد تأثيراتها إلى خارج حدوده, مؤدية إلى نشوء أزمة إقليمية. واحتل الخوف من احتمال احتلال أميركي دائم للعراق, المرتبة الثانية من هواجس وقلق المستطلعين. وعن هذه الهواجس الأخيرة, جاءت النسب المعبرة عنها كما يلي:47 في المئة في الأردن, و38 في المئة في مصر, ثم 25 في المئة من الرأي العام السعودي. وتقول جوديث يافي, وهي محللة سابقة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومدرسة حاليا في جامعة الدفاع الوطني, إن فكرة بايدن فكرة فظيعة في اكثر من وجه بحيث يصعب على من يريد انتقادها أن يعرف من أين يبدأ. فإذا كان لنا أن ندفع العراق بهذا الاتجاه فان الحرب الأهلية ستصبح أمرا مؤكدا, وما نواجهه اليوم سيبدو عندها مجرد لعب أطفال.

ويقول باتريك لونغ, الخبير في الشأن العراقي والمحلل السابق في وكالة الاستخبارات الدفاعية, انه لا يوجد شيء مشابه للحل الذي يقترحه السناتور بايدن في العالم العربي, واعتقد ان ذلك يعود لسبب وجيه, فهذا الأمر لا يروق للعقل السياسي العربي. ويضيف لونغ قائلا: فإذا ما سلكنا هذا الطريق فانه لن يقدم لنا إلا محطة على طريق تفكيك الدولة وزوالها.

مهى حمدان

ليست هناك تعليقات: