2008/07/06

ليسوا سواء

بسم الله الرحمن الرحيم



ليسوا سواء

د. مخلص الصيادي



ليس الناس في أوطانهم سواء، وليس المفكرون في عطاءاتهم سواء، وليس الرجال في مواقفهم سواء، من هؤلاء من يكون عالة على وطنه، ووبال في فكره، وإمعة في مواقفه، ومنهم من يرتفع الوطن معه، يحلق الوطن به، وأمثال هؤلاء قليل لكنهم على قلتهم يقدمون الدليل على ثراء الوطن ، وعظم مخزون الأمة وذخيرتها .

وأعظم من هؤلاء القليل، وأندر منهم، من يتساوق فيه عطاء الفكر وعطاء الموقف، ويتنافس عنده دفق الفكر والرؤية مع صلابة الموقف الكفاحي ووضوحه، ومن هؤلاء ، بل وفي طليعة هؤلاء في هذا العصر يبرز الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي رزئنا والأمة جمعاء بفقده في الثاني من يوليو .

والمسيري الذي صارع المرض كثيرا وطويلا ، رفض على الدوام أن يقعده المرض الخبيث عن الغور بمبضع الفكر الحاذق الذي تملكه عن متابعة ما حل بهذا الوطن من أمراض خبيثة ، وما تكالبت عليه من أوبئة قاتلة ، وما امتحن به من قيادات وقوى تابعة مضللة ، فراح يكشف جذور هذه الأوبئة ، ويؤصل ويسلط الضوء على مداخلها ، ويرشد الى طرق مواجهتها ، ثم لم يكتف بذلك ،ـ وكان يكفيه ذلك ـ وإنما راح يناضل بقوة ، وصلابة ، ومثابرة ضد هذه الظواهر داخل الوطن وخارجه ، ليؤكد مرة أخرى أن المثقف الحقيقي ، والمفكر الحقيقي ، والصادق الحقيقي ، هو الذي يضبط حركته ونضاله على إيقاع فكره ورؤاه ، ليكون بذلك المثل لجناحي التغيير والثورة : الفكر والحركة ، الرؤية النظرية والنضال الجماهيري .

والمسيري رحمه الله ينتمي الى أولئك الصنف من الرجال الذي ذهبوا الى المجتمع الأمريكي وعبوا من علمه ما وسعهم حتى تملكوا كل أدوات التحليل، ومفاتيح التفكير، ونظريات التغيير والفهم، ثم عادوا الى وطنهم أكثر ارتباطا به، وأكثر انتماء لقواعده المؤسسة، وأكثر استعداد لكشف كل الثغرات التي تخترق جسد هذا الوطن ومؤسساته ، وأكثر اندفاعا للعمل الميداني في هذا السبيل .

لم التق الدكتور المسيري وجها لوجه ـ وكنت أتمنى ذلك ـ لكني التقيته من خلال عدد من كتبه وأبحاثه، خصوصا تلك التي تتحدث عن الصهيونية " موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الصهيونية: نموذج تفسيري جديد"، وتلك التي تتحدث عن العلمانية "العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة"، وكتابه"الحضارة والإنسان" المتصل بما سبق.

كذلك تابعته وهو يناضل في صفوف حركة كفاية ضد الاستبداد ، والفساد ، وتوريث الحكم ، وضد الرضوخ للإستراتيجيات الأمريكية ، داخل مصر وفي أقطار الوطن العربي التي احتلت بالجيوش الأمريكية، أو بالإرادات الأمريكية، وفي العالم الاسلامي، وضد العولمة، لقد كان المسيري في هذه المواقف العملية رائدا، فالذي وصل في تحليله العلمي سواء في موسوعته عن الصهيونية، أو في موسوعته عن العلمانية الى هذا التحليل العلمي الدقيق والقطعي الى هذه الطبيعة الوحشية وغير الإنسانية للإمبريالية الأمريكية، لا يمكن له أن يجد موطئ قدم مع هذه السياسات والاستهدافات، ولا بد أن يكون موقعه النضال دون حدود ودون هوادة ضد الإمبريالية والصهيونية، وتداعياتهما واستطالاتهما داخل أوطاننا وعبر العالم كله .

ولقد كان مما أدخل على قلبي حزنا عميقا، ودفعني الى حالة من الغثيان، الممزوج بالغضب، ذلك المشهد الذي نقلته كاميرات التلفزة في مارس من العام الماضي حينما كان المسيري يقود حركة الاحتجاج على التعديلات الدستورية التي أقرها مجلس الشعب المصري، وظهر في ذلك المشهد كيف تحاول عصا السلطان أن تعلوا هامة المفكر المناضل، ظهر المسيري وهو يقاوم جحافل الأمن المركزي، عصا النظام الفاقد للأهلية، عصا الحاكم العاجز عن كل شيء إلا الطغيان على الأمة ورجالاتها، ورموزها وحقوقها، ومستقبلها.

لكن في خضم هذا المشهد المخزي للنظام، والمشرف للمفكر، استرجعت جوهر هذا الموقف، ومعناه الحقيقي فالمسيري هنا يقدم النموذج للمفكر والعالِم الذي لا تشده مكانته العلمية عن الانخراط في العمل الجماهيري، ولا يقعده تقدم العمر، ولا يعجزه تراجع الصحة عن المبادرة بالمساهمة الفعالة في درء الخطر عن شعبه وأمته.

رحم الله عبد الوهاب المسيري ، في سيرته الذاتية أنه من مواليد 1938،وانه درس الأدب الإنجليزي في جامعة الإسكندرية ، ثم ابتعث الى الولايات المتحدة عام 1963 لاستكمال تخصصه في اللغة وآدابها، وقد أعطى في هذا المجال كثيرا ويدل إنتاجه في هذا المجال على سعة عطائه ، ومن هذا المدخل، وبأدوات البحث والتحليل العلمي التي أتقنها ، ولج الى دراسة الصهيونية، والعلمانية والحضارة والحداثة فأبدع وتميز، ومن مظاهر غناه الأدبي أن له تجربته الشعرية وأنه كتب قصصا للأطفال وشعرا للأطفال.

رحم الله المسيري، لو كان في غير هذا الزمان، لكان له شأنا آخر، ولعل لأمثاله في غير هذا المجتمع شأن مختلف، لكن الله بحكمته الجليلة، جعل المسيري ـ وأمثاله على قلتهم ـ في هذا الزمان، وفي هذا المجتمع، وبين أحضان هذه الأمة ليكون عليها شاهدا وشهيدا، وليكتمل عطاؤه ومكانته، قدوة معاصرة يتقوى بها كل المفكرين، وكل المناضلين، وكل أصحاب الضمائر الحية, فترتفع بذلك مكانته عند ربه، فله من هذا العطاء: الفكر والقدوة أجره وأجر من علم وعمل متأثرا به الى يوم القيامة.

رحم الله عبد الوهاب المسيري، واسكنه فسيح جناته، والهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وعوض أمته عنه بالخير والبركة.



الشارقة 3 / 7 / 2008

ليست هناك تعليقات: