2008/07/06

حين يكون المثقف ذا رؤية

عبد الوهاب المسيري:

حين يكون المثقف ذا رؤية

معن بشور

4/7/2008



يمكن للمكتبة العربية والعالمية ان تضم اكثر من ستين كتاباً على الأقل عن المفكر والمناضل الكبير الراحل عبد الوهاب المسيري، اي ان تضم عدداً من الكتب يوازي عدد الكتب التي اصدرها هذا المثقف الاستثنائي في الحياة العربية، بل يمكن لاي باحث متعمق ان يصدر موسوعة كاملة عن الراحل المتميز بموسوعية مداركه تتضمن سيرته، مراحل تطوره الفكري، الموضوعات التي أحاط بها، الكتب التي اصدرها، المفردات التي نحتها مبكراً ومنها عبارة "نهاية التاريخ" قبل هانتغتون بربع قرن، لكن يمكن ايضاً ان نلخص حياة المسيري وعطاءه بعبارة واحدة: كان مثقفاً ذا رؤية .

والرؤية لدى المثقف – من امثال المسيري – هي حصيلة الجمع بين ثقافة وخبرة واخلاص وايمان في آن، هي نوع من سباق الحواجز الذي يجد فيه الرياضي نفسه مضطراً للركض وللقفز فوق الحواجز التي تعترضه دون ان يتعثر او يتأخر او يهوي، بل هي نوع من الاشعة فوق الحمراء التي يخترق عبرها الجندي عتمة الظلمة فيرى امامه بوضوح، بل هي نوع من "القراءة العلمية" في "فنجان" المستقبل فلا تخطئ التوقعات او تخيب.

الرؤية لدى مثقف حقيقي كالمسيري تكون مدعاة للسخرية والاستهزاء احياناً حين تعلن، وكثيراً ما تجلب لصاحبها اتهامات من نوع "الخيالية"، و"المثالية"، و"المفكر الرغبوي"، و "اللاواقعية" فيبدو صاحبها ديناصوراً من الماضي السحيق، او احد اخر "الموهيكان" الذين لم ينقرضوا بعد، ولكن هذه الاتهامات تُطوى على عجل حين تتضح صوابية الرؤية مع الزمن الذي قد يكون بعيداً في بعض الاحيان.

والرؤية مع مثقف متمرس بالنضال كرئيس حركة كفاية المصرية عبد الوهاب المسيري هي ثمرة تلاقح خلاق بين النظرية والممارسة، بين الفكر والعمل، بين المخزون الثقافي والواقع الحي، فالنظرية ترشد الممارسة فيما الممارسة تثري النظرية، والفكر يحصن العمل بينما العمل يغني الفكر، والمخزون الثقافي يضيء الاتجاه فيما ادراك الواقع الحي يقي المسيرة من العثرات.

الرؤية مع مثقف اصيل مسلح بالعلم ، عابق بالايمان، كالمسيري، هي ذلك الدافع الجارف لكي ينقطع ذلك المثقف عن كل مغريات الدنيا من جاه او مال او نفوذ ليحمل رسالة، ويطوّر افكاراً، ويحرص على الانسجام بين القول والعمل، فينتقل من المكتبة الى السجن، ومن البحث العلمي في الجامعة الى النضال الشعبي في الشارع، ومن حلقات النقاش الفكري الى مسيرات الغضب الجماهيري.

لذلك، لم ينبهر المسيري بقوة الصهيونية وهي في ذروة الغطرسة بل رأى عناصر تآكلها فيما كان كثيرون يتعاملون معها كقدر لا بد من الاذعان لمشيئته ولم يصدق الراحل الكبير "بخلود" المشروع الامبراطوري الامريكي بل رأى ان قانون "التغيير" ينطبق عليه، كما انطبق على غيره، وربما بسرعة اكبر.

ومن رأى المسيري في اخر مقابلاته المتلفزة مع احمد منصور في "الجزيرة" يتحدث بايمان المناضل ومعرفة العالم عن الترهل في المجتمع الصهيوني، وعن التفكك في كيان بات اكثر سكانه راغبين في الهجرة منه وباتت الغالبية الساحقة من مواطنيه لا ترى فيه دولة آمنة، بل ان من شاهد صورته على الشاشات، وهو المثقل بالمرض العضال، يقود في الشارع، قبل اسابيع، انتفاضة الجياع من ابناء بلده، ومن التقاه واستمع اليه يتحدث عن حرب تموز 2006، وعن مقاومة فلسطين والعراق، بحماسة لم تخفف من حرارتها الالام، يدرك ان هذا المفكر الكبير قد اغمض عينيه للمرة الاخيرة وهو مرتاح البال، مطمئن النفس، الى ان رؤيته تسير في الاتجاه الصحيح، وان مقاومة امته، تشق "مسيرتها" بنجاح، وكيف لا وهو "المسيري" الذي "وهبه" الله من العلم والخبرة والنظرة الثاقبة ما جعل "رؤيته" صائبة وثاقبة.

رحم الله الرواد الكبار من امثال عبد الوهاب المسيري، كما نصر الله المقاومين والمجاهدين الذين يجعلون من رؤى امثال هؤلاء الرواد حول مصير اعداء الامة رؤى دقيقة وصحيحة.

ليست هناك تعليقات: