2008/07/22

دعوة الى الحوار...من مسجد ضرار!!

فائزة عبد الله

لعلي تأخرت كثيرا في الرد على تلك الدعوة التي اختير لها عنوان نبيل (الحوار القومي).. أو لعله كان من الأفضل عدم الرد لأسباب كثيرة. و لكن رفعا للالتباس و الاشتباه، و منعا للمزيد من التشويش و التشويه، و احتراما للرجال الذين صمدوا و صدقوا و ما بدلوا تبديلا.. و تعميدا لأجيالنا الحاضرة و القادمة من شباب أمتنا على هذه الرقعة الحبيبة من وطننا الكبير، و تفاعلا أيضا مع ما لمسته من صدقية في بعض تلك الردود رغبة من أصحابها في حلحلة واقع القوميين في تونس، وجب علي الرد و توضيح بعض النقاط.

أولا: إن تلك الدعوة التي يزعم صاحبها أو أصحابها أنها تأتي كمبادرة منهم لرأب الصدع و جمع شمل العائلة القومية، ما كان يجب أن تمرر عبر تلك الوسائط و بتلك الصورة من الفجاجة الدعائية و الإعلامية التي لا أرى مستفيدا من نتائجها غير المتنفذين في الدوائر الأمنية داخل القطر و خارجه، و ليس ثمة ما يبرر ذلك حتى و إن قيل "تلك وسائط الأحزاب القانونية و شروط اللعبة الديمقراطية".

ثانيا: أن الإطار الذي انبثقت عنه تلك الدعوة "مسمَى" ، و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الحاضنة الشريفة التي يمكن أن ترفع لواء المشروع القومي في تونس و في هذه المرحلة بالذات التي تتسم بقدر كبير من الدقة و الأهمية سواء فيما يتعلق بواقع أمتنا عموما أو واقعنا القطري على وجه الخصوص، و هو المشروع الذي يعلم القاصي و الداني أنه لم يكن و لن يكون في يوم من الأيام رهين حسابات خاسرة يحكمها ضيق الأفق و الارتهان لعامل الارتزاق السياسي - المناصبي و المادي و هو حال وصل بالبعض إلى حد إسقاط كل المحاذير و تجاوز كل الخطوط الحمر.

ثالثا: لقد حاولت من خلال البحث و التمعن في تلك الدعوة أن أصل إلى رؤية منهجية واضحة يمكن أن تـفضي إلى حوار مؤسس فعال و غير محكوم باستحقاقات آنية ولا هو رهين محطات سياسية بعينها، و هو ما كلفني متابعة كل تلك الردود سواء تلك التي نشرت على أعمدة الصحيفة الناطقة باسم الحزب صاحب "المقاولة".. أو ما رفدها من بعض المقالات الأخرى (الشروق بتاريخ 9/3/2008 ص 17) فلم أجد في الحقيقة ما يطمئن له القلب أو يستريح له العقل بالرغم من كل تلك العبارات المدبجة، و الجمل البالغة، و التوظيف المتعمد للموروث النضالي و الفكري للتيار القومي التقدمي تحديدا الذي يحاول بعضهم اليوم و بعد (خراب البصرة) أن يمارسوا باسمه دور "السدنة" انطلاقا من ذلك الإطار الذي هو أشبه بمسجد ضرار الذي بناه المنافقون في القرن السادس بدعوى إقامة الصلاة في حين كان وكرا للتآمر على الأمة و قضاياها.

و إنني أعتقد جازمة أنه لا يختلف اليوم قوميان اثنان عاقلان على عدم أهليته ليكون مأتمنا على أي مشروع جاد من شأنه أن يجمع و يوحد الجهد النضالي و السياسي القومي في القطر، و يدفع به قدما و لو في حده الأدنى. بل لعله من الواجب أن أذكّر هنا (لعل الذكرى تنفع المؤمنين) أن ذلك الإطارو منذ نشأته في أواخر الثمانينات قد لعب دورا تخريبيا بامتياز لضرب أي عمل سياسي قومي منظم جاد بعد أن التقت "جهود" الإقليميين داخله و رغبة الإقليميين خارجه لقمع كل جهد عروبي وحدوي مخلص من شأنه أن يعيد للبعد القومي عمقه و وهجه و امتداده في القطر.و لعل المجال هنا لا يتسع لسرد و كشف تلك الوقائع.. لكنني سأعود إليها بالتفصيل إذا اقتضت الضرورة ذلك، خاصة في ظل ما تلمسه خلال هذه المرحلة من اشتباه و تشابه في الأدوار و الشخوص.إن القوميين هم فعلا بحاجة ماسة اليوم و أكثر من أي وقت مضى للحوار.. وقراءة واقعهم و واقع أمتهم قراءة صحيحة، و هم مطالبون أيضا بدراسة تجربتهم و التعلم من أخطائها و البناء على ايجابياتها دون أن تلتبس عليهم السبيل. نعم هم مطالبون باستحقاقات كثيرة أقل ما فيها الحوار.لكن على قاعدة هل يستوي الأعمى و البصير، و إن كنت أحفظ للقول الكريم "خيركم من بدأ صاحبه بالسلام" الذي جاء مذيلا لتلك الدعوة دوره و قدره و عزته، و أنزه معانيه السمحاء عن أي توظيف سلبي. و من هذا المنطلق أقول.. إن الذين ما زالت لديهم بقية رهانات خاسرة على خيارات النظام الإقليمي الرسمي العربي الفاشل بكل المقاييس و منذ أكثر من ثلاث عقود خلت، آن الأوان لهم أن يعوا و يتبصّروا و يبصروا أن الإقليمية فشلت و انتهت إلى مأزقها الطبيعي، و أن جماهير الأمة بالرغم من آلامها المريرة فان هناك من مؤشرات و دلائل وعيها ما يبشر بقرب نهوضها و انتفاضها و انتظامها في المواقع و الساحات التي لم تمارس فيها بعد دورها، و هذه الإرهاصات تفرض على طليعتها أن تكون في مستوى تلك التحديات و أن يكون لها وجود مؤثر و جهد غير محكوم بسقف زمني لمحطات عابرة. إننا إذا أردنا أن نهيئ لأي ممارسة سياسية ديمقراطية بناءة من شأنها أن تجمع النسيج القومي في تونس و توحد أهدافه و تحافظ على قدراته الذاتية و الموضوعية، و تخلق له دورا فاعلا أو بمعنى أصح تعيد له دوره المفقود و المسطو عليه فلا بد أن نبدأ بمقدمات صحيحة للعمل.. لا مجال فيها للضبابية و المواربة، و لا مجال فيها للخوف و التردد، ولا مجال فيها للنفاق و المحابّات و دون أن نحسب كثيرا ثمن التضحيات إن وجدت أو وجبت.

و أول تلك المقدمات هي أن ننحاز بالكامل إلى قضايا أمتنا العادلة، ونقاوم العدو و الاستبداد و الظلم، و نسعى إلى تحقيق أهدافنا في التحرير و الوحدة و التنمية بعيدا عن أي تعاطي مع الأعداء بما فيهم الإقليمية المجرمة التي لازالت تحاصرنا بالقوة الباطشة، بالسجون و المشاريع الواهية، بالوعود الكاذبة و البدائل الفاشلة، و لا زالت تحول دون خلاص الأمة من محنتها، و دون حق الجماهير العربية في صياغة حياتها الحرة و صنع تقدمها. متشبثة في المقابل بثنائية فك الارتباط مع الشعب و فك الاشتباك مع العدو.. وللحوار بقية..

ليست هناك تعليقات: