2008/07/21

في الذكرى السادسة و الخمسين لثورة 23 يوليو:

المقاومة...و جذور أزمنة الكرامة

في زمنٍ يربضُ فيه الشعرُ على تخوم ليل الاستبداد, يشربُ من كأس مفرداته المشتعلة بالمواجع نخبَ التجزئة المعتّقة بالقهر والتخلف,ويذرفُ الدمعَ الملتحفَ بأحزان السيطرة والتسلط والهيمنة حتى الهوان, ينظر إلى حريق الفواجع شريطاً من الأعراس الجنائزية,يجعل من طرقات الصومال وغاباتها مقبرة ً للغزاة وداعميهم,ومن الحفاظ على وحدة السودان صخرة ًتتحطمُ عليها مؤامرات المستعمرين وعملاؤهم, ومن شوارع بغداد والبصرة ملاحم َ بطولةٍ يقف أمامها فرقاءُ الاحتلال في ذهولٍ يذهبُ بملامح وجوههم, ومن فروسيات الفلوجة والرمادي والموصل بيادرَ بسالةٍ معمّدة ّ بالدم,عصيّة ًعلى الانكسار والاندثار, ومن حصار غزّة حصاداً لتلك الصياغة المدهشة من الصمود,ومن تمسك الأهل في الضفة والقدس بالأرض معجزة ً تفوقُ خوارقَ الطبيعة, ومن جنوب لبنان أسطورةً مكتظـّة ً بالأسرار, ترتسمُ على جدار الذاكرة العربية منارةَ نجاةٍ, تتهاوى حولها الكلماتُ من علياء النجوم إلى سطور الورق أقماراً ترقصُ على إيقاعات الوزن وأنغام القافية, تهمسُ بحرقةٍ في قاع الروح العربية أن تجوب مدائن الألوان,بحثاً عن جذور أزمنة الكرامة التي حملت بسواعدها شمسَ المقاومة العربية الحديثة,فتتوقف أمام كشوف الأفعال وفهارس الانتصار وعبقرية التحدي وريادة الإنجازات في محطة قطارٍ يقلع إلى صباحات الزحف الثوري المقاوم ليوم الثالث والعشرين من يوليو1952م...

في صباح ذلك اليوم الصيفي الساخن, تدفقت حشودُ كتائب الغيوم المقاومة إلى سماء القاهرة, العاصمة الأكثر ثراءً بالهموم والآلام, فأمطرت بعد سنوات قحطٍ طوال سيولاً ثوريّة, تجرف أمامها صخورَ الانتظار,ودوامات القلق وعذابات الحرمان ورواسبَ عصور الفقر والجهل والمرض,ممزّقة أحلامَ الرجعية السياسية والاقتصادية المتخمة بالإفلاس في أحضان الاستعمار,ومقتحمة ً معاقل الاستعمار في قصور الرجعية, وهكذا أشرقت شمس الحرية, تغمر بأشعة أمانها الذهبية حقول الخوف,مبدّدة جغرافيا الألم,تحفر على جدار الزمن لحظة الإنعتاق, تتبادل المواعيدُ التحيات بين طرد الملك والإصلاح الزراعي ثم باقات الورد بين اتفاقية الجلاء واتفاقية كسر احتكار السلاح...لكن الأحلامَ العذراءَ للشعوب لا تتوقف على بدءِ الغيوم وانتهاء المطر,بل تتمرد على حلقات الأسر التي وضعها السجانون من ذوي الأنياب الزرقاء في معصمي الإرادة الشعبية قيداً يحاصر طلائع المقاومة الثورية, فيحرمها الحقّ في تنمية بلادها وتطورها, فكانت معلقة ُعصر القومية العربية الخالدة,ضربة المعلم القاضية بتأميم قناة السويس والانتصار على العدوان الثلاثي,الذي خرجت منه مصر تحمل حقائبَ الروح عبر سيناء إلى الشام مسقطة ً حلف بغداد ورافعة ً علم الجمهورية العربية المتحدة, مرسلة ً قوافلَ من أغراس شجر الروح عبر ساحل شمال أفريقيا إلى الجزائر لتنبتَ ثواراً وبنادقَ مقاومة ً تحرّرُ الجزائر وتدعم كفاح تونس والمغرب, ولأن عرق الكادحين و دماءَهم هي حبرُ قصائد القومية العربية فقد تقاطعت خططُ التنميّة المستقلة مع تحرير اليمن وخروجها إلى النور, لتشهدَ مواسمُ العمر دورة فصول البناء والتطور والعدل الاجتماعي وعناقَ الحرية السياسية والحرية الاجتماعية بدءً من تحرير رغيف الخبز وبناء السد العالي وانتهاءً بسيطرة الشعب على وسائل الإنتاج وحتميّة الحل الاشتراكي....

لم تتوقف مقاومة الاستعمار والرجعية على الداخل المصري و المحيط العربي, وإنما نهضت الأحلامُ تحمل منظومة َقيمٍ سياسيةٍ جديدة ٍ تحارب الاستعمار في كل مكان, انطلاقاً من المقولة الخالدة:(إن حرية الشعوب لاتتجزأ)فكانت مؤتمراتُ الحياد الايجابي وعدم الانحياز في (باندونغ وبيريوني وبلغراد والقاهرة)محطاتِ كفاح ٍعلى طريق تحرر الشعوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية...

ولما كان الطغاة ُوغلاة ُ الإمبرالية لا يتذوقون الشعرَ الذي في أحشائه جذوة ُ الحرية, و في موسيقاه أمداءُ الكلمة المقاومة و البانية, فقد شحذ هؤلاء السكاكين و شرعوا يذبحون القصيدة باعتبارها أحلامَ المدينة الفاضلة الرابضة على ضفاف الإبداع, فاغتالوا بجريمتهم يوم الخامس من حزيران 1967, حضارةَ الشعوب وتراث َالأجداد و تاريخ الفتوحات,وأسماكَ شواطئ البحر, وأغصان َالمطر وحقول العشاق, وبطاقاتِ العيد وخبزَ الفقراء,وأحلامَ الفلاحين وأمنياتِ العمال, ودموعَ الفرح في وقفات التاريخ و في صفحات الميثاق وعيون المثقفين..!!

لكن سرعان ما تدفقت ينابيعُ الإحساس بالأشواق الظامئة إلى الحياة و الحرية, تطبقُ الخناق على الهزيمة, تجدّف عكس التيار, تقف أمام زوابع الرماد, تنتشل الوطن من ركام الأحزان و عتبة الهاوية, تأخذ بيد القائد من لهيب الوجع الذي لا ينام إلى أحلامٍ اختلطت فيها زرقة مياه النيل بزرقة صفحة السماء, فقام القائد يضمّدُ جراحَ الأحزان, و يحوّلُ النكسة المفجعة إلى ورشة عمل, يعيدُ فيها الشباب عملية البناء, يسطرون حكاية شعبٍ يرفضُ الهزيمة و يقاومُ العدوان, يغيّر لونَ الدماء في أوردة المكان و شرايين الزمان لإزالة آثار العدوان, يتابع زمن العبقريات الخالدة وضعَ بصماته على أيام حرب الاستنزاف ملحمة ً بطولية ً رائدة ًفي تاريخ كفاح الشعوب من أجل الحرية, يدعم بكل الوسائل المادية والمعنوية مقاومة َ الشعب العربي الفلسطيني بالكفاح المسلح لاستعادة حقوقه المشروعة,مبدعاً استراتيجية َ المقاومة العربية من وحي "لاءات الخرطوم"المجيدة,وتقديم كل ما هو قومي على كل ما هو قطري بالمطلق, "وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير بالقوة".. وبينما حائطُ الصواريخ في طريقه إلى التمركز على طول القناة استعداداً للعبور العظيم, توقف قلبُ القائد و هو يرى الدمَ العربي يُهدرُ في الدروب الفرعية,رحل وفي حلقه غصة ُ الهزيمة و في وجدانه قصيدة ُ الانتصار, وخرجت جماهير الوطن العربي في أكبر عرس ٍ جنائزي عرفه التاريخ, تؤكد إرادة الصمود والمقاومة, وتصر على الانتصار "بالروح, بالدم حنكمل المشوار"..

وبعد أن كان عبد الناصر يجتاح بأفكار الثورة ونهجها المقاوم أوردة الشعب العربي, ويحيا بدفء كلماته في ذاكرة الأمة, يستقر في عقلها ووجدانها مبادئ سامية ومُثلاً عليا, يتربع على عصرٍ بكامله لا ينازعه عليه أحد,راح المنتسبون إليه يراوحون في المكان,يعيشون حالات الواقع العربي المرير بالفرقة والشرذمة والانقسام, فتمر الأيام ثقيلة تجعلهم يقفون على أرصفة التعب مرةً,ويسيرون وراء مقولات تغيير الخطاب القومي وتجديد الفكر القومي مرةً أخرى ...وهكذا ضاعت سدىً سنوات الانتظار التي قاربت الأربعين دون الوصول إلى وحدة أداة النضال العربي في حركة قومية عربية واحدة تقرب المسافة بين نبل الغاية وشرف الوسيلة وتكون الطليعة المقاتلة تتقدم صفوف قوى المقاومة العربية لتحرير المغتصب من الأرض وبناء دولة الأمة الواحدة..!! فهل تتحقق أحلام عبد الناصر بالمقاومة والثورة والوحدة من جديد أم أن زمن المعجزات بحاجة إلى رجال غيرنا..؟!!..

دمشق 1/7/2008م أبو تمّام

ليست هناك تعليقات: