2008/07/21

الاستراتيجية الناصرية لتذويب الفوارق بين الطبقات

د. على ليلة

مقدمة

برغم أن حالة التجانس البشرى فى المجتمع هى الحالة التى بدأت بها المجتمعات الإنسانية – حسبما يذهب التراث النظرى – قبل أن تعرف التباين الاجتماعى المستند إلى تباين القدرة الاقتصادية أو القوة السياسية أو النفوذ، وهى أيضاً الحالة المثالية التى ينشدها التنظير السوسيولوجى بنماذجه المتعددة، سواء تمثل الهدف فى تحقيق المساواة فى إشباع الحاجات الأساسية إلى ما فوق حدود الكفاف، أو أن هذه المساواة تتحقق من خلال سياسات دولة الرفاهية. الأمر الذى يعنى أن حالة التباين أو حالة عدم المساواة هى حالة استثنائية بينما أن حالة المساواة هى الحالة القاعدة، بحيث شكل هذا الوضع أو هذه الحالة القاعدة المرجعية التى استندت إليها المشروعات الاجتماعية المتباينة، بغض النظر عن منطقها وتوجهاتها الأيديولوجية، حيث نجد أن هذه المشروعات الاجتماعية تباينت من ناحية الأهداف التى تنشدها، أو من ناحية السياسات التى يمكن أن تتبعها لتحقيق هذه الأهداف . فى هذا الإطار يمكن أن نرصد ثلاثة مشروعات .

1 -
المشروع الأول هو المشروع الاشتراكى الذى شكلت الماركسية قاعدته المعرفية، ويسعى هذا المشروع إلى استعادة المشاعية الأولى وفق أسس علمية، بحيث توجه الموارد لإشباع الحاجات الإنسانية مجتمعة بما يقضى على ظاهرة الاغتراب . بيد أنه برغم نبل أهداف هذا المشروع الاجتماعى، فإن عدم كفاءة السياسات الاجتماعية، إضافة إلى نقص إدراك مكونات الشخصية الإنسانية، إلى جانب عدم وجود البيئة العالمية المواتية، فإن كل هذه الظروف قد أسلمت إلى فشل المشروع الاشتراكى وتعثره .

2 –
ويتمثل المشروع الاجتماعى الثانى فى مشروع تحقيق دولة الرفاهية، حيث يشكل هذا المشروع إطار النمو أو التطور الرأسمالى، ويعمل هذا المشروع على ازدهار القطاع الخاص والاعتماد عليه فى إنجاز عملية التنمية والتحديث، وهذا المشروع يؤكد على دور طبقة المقاولين أو رجال الأعمال، باعتبارها الطبقة التى تمتلك توجهات ذات طبيعة إيثارية، فبرغم أنها تمتلك غالبية رأس المال، إلا أنها تعمل على توظيف رأس المال الذى تملكه فى تطوير المجتمع، وإذا كان ماركس قد نظر للمشروع الاجتماعى الأول فإننا نجد أن "ماركس فيبر"، و"تالكوت بارسونز" قد نظرا للمشروع الاجتماعى الثانى .

وبالإضافة إلى تأكيد أصحاب هذا المشروع على أن الطبقة العليا فى المجتمع هى التى تقود التطور الاجتماعى والاقتصادى، فإن هناك اعتقاداً عند مؤيدى هذا المشروع، بأن قدر من التراكم الرأسمالى، سوف يفيض عند حد معين، ليتدفق ويصيب أبناء الشرائح الأدنى فى المجتمع . وقد جسدت البرجوازية الأوروبية العليا متضمنات هذا المشروع، حينما وجهت التراكم الرأسمالى الذى تحقق فى المرحلة التجارية من تاريخها (البرجوازية التجارية) نحو الاستثمار فى الصناعة، ومن ثم فقد قادت التطور الصناعى، ثم التطور الرأسمالى الذى ينشد بناء دولة الرفاهية .

3 –
وينطلق المشروع الاجتماعى الثالث من مرجعية واقعية وليست نظرية على ما تذهب المشروعات الاجتماعية السابقة، حيث يسعى هذا المشروع بتهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لنمو واتساع خريطة الطبقة المتوسطة بحيث تتولى هذه الطبقة تأسيس التجانس الاجتماعى فى المجتمع على حساب تآكل الطبقة الدنيا من ناحية وتقلص الطبقة العليا من ناحية أخرى، ولعل ذلك يرجع بالأساس إلى أن الطبقة الوسطى بشرائحها الرأسية، وجماعاتها الأفقية، هى الطبقة القاعدة فى بناء المجتمع إذ تنتمى إليها مختلف الجماعات ذات الأهمية المحورية بالنسبة لبناء المجتمع، إذ تنتمى لهذه الطبقة البيروقراطية الحكومية بقطاعاتها المتعددة، إضافة إلى الجيش، إلى جانب الشريحة التى تهتم ببناء الثقافة فى المجتمع.

وتعمل الأنظمة السياسية التى تهتم بتكريس مشروع الطبقة المتوسطة على تطوير نوعية حياة الشرائح الطبقية الدنيا، من خلال مجموعة من السياسات التى تتولى تعظيم فاعلية دخول هذه الشرائح بما يساعدها على قيادة نوعية حياة الطبقة المتوسطة، هذا بالإضافة إلى توجيه استثمارات الطبقة العليا بما يحقق أكبر عائد اجتماعى للمجتمع، وبخاصة الطبقة المتوسطة والدنيا. ومن الواضح أن المشروع الاجتماعى هو نتاج التناقض بين المشروعين السابقين (الأول والثانى) ورفضاً لحالة الاستقطاب بينهما، ومحاولة الوقوف فى المنطقة الوسط، وانطلاقاً من هذه المنطقة رأت الصفوة السياسية أن يتم التطوير من خلال المجرى الرئيسى فى المجتمع .

أولاً : الطبقة المتوسطة على خريطة المشروع الناصرى :
يتسع نطاق الطبقة المتوسطة حتى أنها تضم بداخلها غالبية الجسد الاجتماعى، بحيث يمكن أن تتبلور هذه الغالبية على هيئة جماعات تشغل مواقع متباينة أو على الأقل مختلفة على خريطة هذه الطبقة؛ فعلى الصعيد الاقتصادى تضم هذه الطبقة الشرائح الاجتماعية الدنيا لهذه الطبقة والقريبة من الطبقة الدنيا . وعلى المستوى الأفقى تضم هذه الطبقة – الجماعات التقليدية إلى جانب الجماعات العلمانية الحديثة – متوسطى ملاك الأراضى الذين تتراوح ملكياتهم بين خمسة أفدنة وخمسين فداناً فى الريف ، فى مقابل المستويات الإدارية المتوسطة والعليا فى البيروقراطية الحكومية، إضافة إلى الشرائح المهنية والصفوة المثقفة فى المدينة . وهو ما يعنى أن الطبقة المتوسطة تضم بداخلها تجمعات تتباين من حيث توجهاتها الأيديولوجية والثقافية، ومن حيث سياقها الاجتماعى، أو طبيعة أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وحسبما يذهب بعض الباحثين فإن الطبقة المتوسطة من الناحية التاريخية لعبت دوراً نضالياً، حيث نجد أن الجناح التقليدى لهذه الطبقة لعب دوراً نضالياً خلال السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والعقد الأول من القرن التاسع عشر من خلال قيادة الشعب المصرى لمقاومة الحملة الفرنسية، ثم فى تحدى الوالى العثمانى (خورشيد باشا) وإجبار السلطات على تعيين محمد على والياً على مصر، وكانت هذه الطبقة تتكون حينئذ من مشايخ وعلماء الأزهر بالإضافة إلى أمراء المماليك والملتزمين . ذلك إلى جانب شريحة التجار التقليديين وفئة الصناع والحرفيين(1). وتتجلى تقليدية هذه الطبقة بالنظر إلى ثقافتها المستندة إلى الأبعاد التقليدية للدين بالأساس، هذا إلى جانب قناعتها بأن تلعب أدواراً خارج الساحة السياسية اللهم إلا على سبيل الاستثناء والضرورة للتوسط بين الحكام والرعية، إما برفع المظالم من الرعية إلى الحكام، أو تهدئة الرعية وضبطها لمصلحة الحكام(2).

ويمكن القول بأن محمد على باشا أسس ما يمكن أن يسمى بالطبقة الوسطى الجديدة التى جلب عناصرها من أبناء الطبقة الوسطى التقليدية، حيث أبناء التجار والأعيان والفلاحين الذين جلب لهم المعلمين من الخارج، أو أرسلهم أنفسهم فى بعثات إلى الخارج. حيث إنفتحوا على العالم الخارجى، وشكل هؤلاء الأبناء قطاع الطبقة الوسطى الجديدة التى تعد تطوراً للطبقة الوسطى التقليدية . وإذا كان مشروع محمد على هو المشروع الذى استهدف تحدث مصر بالانفتاح على العالم؛ للاستفادة من تقدمه، فلقد نظر محمد على إلى الطبقة المتوسطة بصفتها القوة التى يمكن أن تجسد مشروعه التحديثى، ومن ثم فقد لملم عناصرها من أبناء الطبقة الوسطى التقليدية، وبذلك يكون المشروع التحديثى لمحمد على قد عمل فى اتجاه توسيع نطاق وفاعلية الطبقة الوسطى بجناحيها التقليدى والحديث بخاصة الأخير .

وإذا كانت الطبقة الوسطى هى التى دعمت قيام نظام محمد على، حيث قام أحد جناحيها (التقليدى) بتثبيت أركان حكمه، بينما تولى الجناح الآخر تجسيد مشروعه الاجتماعى، فإن انهيار نظام محمد على أمام القوى الأوروبية وبداية التغلغل الأجنبى فى مصر ابتداء من عصر إسماعيل وحتى توفيق فرض أهدافاً نضالية جديدة على الطبقة المتوسطة، حيث لعبت هذه الطبقة دوراً نضالياً امتد من الثورة العرابية، التى تفجرت من أجل حماية الاستقلال الوطنى فى مواجهة التدخل الأجنبى، إضافة إلى تقنين العلاقة بالنظام السياسى من خلال وضع دستور للبلاد ينظم مشاركة الشعب فى الحياة السياسية، وحتى ثورة 1919 التى رفعت نفس المطالب، حيث قابل الإنجليز والقصر هذه المطالب فى منتصف الطريق، فأعطوا استقلالا منقوصاً (1922) ودستوراً منقوصاً (1923) . غير أنه فى خلال هذه الفترة جرت مياه كثيرة فى ذات النهر، بحيث أنعش تدفقها أوضاع الطبقة المتوسطة .

فى هذا الإطار بدت مجموعة من الظروف أولها الاحباط الذى أصاب هذه الطبقة نتيجة للطموحات الواسعة التى وجهت أداء النظام السياسى فى عصر إسماعيل، وهى الطموحات التى انتهت حينما انهارت تجربة التحديث فى هذه المرحلة تحت وطأة الديون الخارجية وازدياد النفوذ الأجنبى، الأمر الذى أشعل جذوة المشاعر الوطنية بحيث بدأت فى التبلور مفاهيم المواطنة والانتماء، هذه المشاعر احتوت على مضمون رافض للنفوذ الأجنبى، ورافض كذلك للنظام السياسى الذى فتح الأبواب لهذا النفوذ . ويتمثل الظرف الثانى فى التوسع الأفقى لجماعة الطبقة المتوسطة بحيث وجدنا أن تجاربها النضالية وبخاصة فى الفترة من 1882 – 1918 وراء نجاحها فى تبلورها كطبقة، وانتشارها فى المدن الرئيسية، هذا بالإضافة إلى تبلور وعيها بذاتها، بحيث أصبحت قادرة على تعبئة جماهير المدن والأرياف لتشارك فى انتفاضة 1919، وهى الانتفاضة التى تحولت إلى ثورة استمرت عدة أسابيع .

ويتمثل الظرف الثالث فى الالتحام الذى تحقق بين القطاعين الرئيسيين لهذه الطبقة التقليدى والحديث، إضافة إلى التماسك بين شرائحها المتباينة من حيث المستوى الاجتماعى الاقتصادى، بحيث أصبحت هذه الطبقة كتلة عريضة تحتوى على تنوعات داخلية كبيرة .

ويمكن القول بأن النضال الحقيقى للطبقة المتوسطة قد حدث فى الفترة التى امتدت منذ ثورة 1919 وحتى ثورة 1952، حيث استطاعت خلالها الطبقة المتوسطة أن تستكمل الاستقلال المنقوص إضافة إلى حفاظها على هوية مجتمعها . فعلى الصعيد الاقتصادى نجد أن البلاد قد شهدت خلال هذه الفترة نمواً فى السكان وفى النشاط الصناعى، خاصة فى المراكز الحضرية حيث تعيش الطبقة المتوسطة، وقد صاحب ذلك تطور الإدارة الحكومية الأمر الذى دفع إلى ظهور شريحة لها وزنها من الموظفين والمهنيين . إلى جانب ذلك فإنه برغم القيود التى فرضها الاحتلال البريطانى على الصناعة المصرية، إلا أن التطور الصناعى شق طريقه خلال هذه الفترة مستنداً إلى إدارة مصرية خالصة، وإذا كانت ثورة 1919 قد أثمرت عن إعلان للاستقلال الشكلى للبلاد، الذى رمز له باشتراك بعض الشرائح العليا للطبقة المتوسطة فى الحكم، فإن ذلك قد ساعد تدريجياً على تعديل السياسة الاقتصادية، بما يجعلها تستجيب لمتطلبات قيام صناعة قومية حديثة .

وبرصد التطور الصناعى الذى حدث منذ ثورة 1919 وحتى ثورة 1952 يتضح لنا أن رؤوس أموال واحتياطيات وسندات الشركات المساهمة الصناعية قد زادت بمعدل منخفض فى البداية لم يتعد 1,25% سنوياً بين عامى 1922-1933، إلا أن هذا المعدل قد ارتفع إلى 13.5% بين عامى 1933 وحتى 1947، ثم بمعدل 13.7% عامى 1947، 1952، وزاد نصيب الصناعة من 11.7% إلى 46.1% من إجمالى رؤوس الأموال المساهمة بين عامى 1922-1953، وهو ما يعنى أن الطبقة المتوسطة بدأت تقود النهضة الصناعية لمجتمعها، وقد أكد ذلك ازدياد حجم المؤسسات الصناعية التى تستخدم عشرة عمال فأكثر فى الفترة من 1927-1947، حسبما يوضحه الجدول التالى(3) :
متوسط عدد العمال فى المؤسسة %التغير %الإجمالى عددالمشتغلينبالألف %التغير %الإجمالى عدد المؤسسات السنة
41
ـــ 49.1 110 ــــ 6.2 2653 1927
61 50.00 58.5 165 1.3 6.1 2687 1937
79 60.6 71.8 256 24.5 12.5 3346 1947

ونحن إذا تأملنا غالبية هذه المؤسسات الصناعية، فسوف ندرك أن ملكيتها تنتمى للطبقة المتوسطة، فإلى جانب أن تكنولوجيتها ليست متطورة فإنها فى أغلبها منشآت متوسطة الحجم، حيث أن متوسط عدد العاملين فى كل منشأة لم يتجاوز 79 عامل، وهو ما يعنى أن حجم المنشأة ليس كبيراً من حيث نسبته إلى الطبقة العليا .

وعلى الصعيد الثقافى نجد أن هذه الطبقة استشعرت تهديد التغلغل الثقافى الأجنبى الذى أصبحت له وطأته على الثقافة القومية، ومن الملاحظ أن الطبقة المتوسطة انقسمت فى المواجهة الثقافية إلى قطاعين رئيسيين؛ القطاع الرافض للثقافة الغربية، والذى اعتبرها تغلغلاً فى حياتنا الثقافية وعلى رأس هذا القطاع نجد جماعة الأخوان المسلمين بزعامة الشيخ الإمام حسن البنا، الذى يعد استمراراً للتيار الدينى أو تيار الثقافة التقليدية. فى مواجهة ذلك نجد قطاعاً كبيراً من الطبقة المتوسطة الجديدة يتجه إلى الأخذ بالثقافة الغربية ويسعى إلى تبنيها هوية له، باعتقاد أن هذه الثقافة هى طوق النجاه إلى التقدم، ويعبر عن ذلك اللورد "كرومر" فى أحد تقاريره الذى صدر قبل ذلك بكثير (1905)، حيث قال " إن الاختلاف ظاهر لكل من يقابل بين الحالة الآن وما كانت عليه منذ عشر سنوات أو خمسة عشر سنة .. حيث استهلاك المنسوجات الأوروبية بدلاً من المنسوجات الوطنية .. وباستبدال الملابس الأوروبية الجاهزة ضاعت سوق الملابس المزركشة زاهية الألوان للخياطين الوطنيين ، وبانتشار إرتداء الأحذية الأوروبية حتى بين المشايخ الأكثر تمسكاً بالقديم .. والطبقة العليا تشترى أثاثها وملابسها وسائر حاجاتها من صنع أوروبا، وقلدتها تدريجياً الطبقات الأخرى"(4) .

وقد عبر عن هذا التوجه للأخذ بالثقافة الغربية الدعوة إلى سفور المرأة، وهى الدعوة التى أكد عليها قاسم أمين أحد رموز الطبقة المتوسطة، ذلك بالإضافة إلى أصحاب التوجهات الليبرالية والماركسية الذين قدموا خطابات تستند إلى قاعدة فكرية غربية فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية ذات الأهمية المحورية بالنسبة للمجتمع كقضية الإصلاح الزراعى، حيث نجد بعض مفكرى الطبقة المتوسطة يقدمون حلولاً ليبرالية للمسألة الزراعية كمشروع الإصلاح الزراعى فى وزارة سعد زغلول عام 1924، ومشروع محمود بسيونى الذى طرحه فى مؤتمر حزب الوفد المنعقد فى 1935، ومشروع محمود كامل المحامى عام 1939، ومشروع على الشمسى باشا عام 1939، ومشروع جلال فهيم فى عام 1934، ومشروع جماعة النهضة القومية فى عام 1944 كما عبر عنه مريت غالى . هذا بالإضافة إلى بعض المشروعات التى تعبر عن خطابات ردايكالية وماركسية بالأساس، على سبيل المثال مشروع محمد خطاب، ومشروع الثوريين والماركسيين(5)، وهو ما يعنى أن هناك جماعات من الطبقة المتوسطة تبنت أيديولوجيات غربية لحل بعض المشكلات القومية، سواء كانت جماعات ذات توجهات ليبرالية أو راديكالية .

بالإضافة إلى ذلك نجد أداء الطبقة المتوسطة نضالياً، تطويرياً على الصعيد السياسى والاجتماعى . حيث حاولت هذه الطبقة من خلال جهود أبنائها تطوير الواقع الاجتماعى، كمشروعات محو الأمية ومواجهة الحفاء، إضافة إلى الدور النضالى الذى قاده أبناء هذه الطبقة ضد النظام السياسى، من خلال العمل المنفرد تعبيراً عن توجهات هذه الطبقة كما تجسد ذلك فى تنظيمات الأخوان المسلمين ومصر الفتاة والماركسيين(6)، أو من خلال تحالف أبناء هذه الطبقة مع جماعات من الطبقات المجاورة كالتحالف الذى تحقق بين الطلبة والعمال؛ ليقودوا النضال ضد قوى الاحتلال والنظام السياسى المتحالف معها، بحيث زخرت هذه الفترة بالنقد الاجتماعى، وبالانتفاضات الطلابية والعمالية فى مدن مصر الكبرى، وباستخدام العنف والاغتيالات والمواجهات الدموية(7) .

ثم جاءت ثورة 1952 تتويجاً للتشكل التاريخى والنضال الذى قادته هذه الطبقة ضد القوى التى تفرض القهر والتخلف على المجتمع، بحيث ساعد نجاح هذه الطبقة إلى دفع أبنائها إلى قمة النظام السياسى ليشكلوا صفوته القائدة، بحيث يشير تأمل هذه الصفوة إلى انتماء أفرادها لمختلف شرائح الطبقة المتوسطة منظوراً إليها رأسياً أو تنتمى إلى مختلف توجهاتها الأيديولوجية منظوراً إليها أفقياً، أو تمثل قطاعاتها التقليدية والحديثة منظوراً إليها تاريخياً .

وإذا كانت تفاعلات النظام السياسى لثورة يوليو قد استقرت فى النهاية لقيادة ناصر وزعامته، فإن التطورات اللاحقة لثورة يوليو جعل صفوتها تعكس المجرى الرئيسى للطبقة المتوسطة، مع تقليص التطرفات سواء فى اتجاه اليمين المتشدد أو اليسار المفرط . ومن ثم حافظت هذه الصفوة على توجهات وسطية تعكس مناخ وحالة الطبقة المتوسطة، بحيث انعكست هذه التوجهات على طبيعة سياساتها الاجتماعية، أو على طبيعة القرارات الموجهة لهذه السياسات .

وإذا كانت رؤية ناصر للقضايا الاجتماعية هى المعبرة عن المضامين الجوهرية لصفوة يوليو بعد استقرارها وتبلور توجهاتها، فإنه من المعتقد أن الناصرية نظرت إلى المسألة الطبقية من منظور الطبقة الوسطى، أو من حيث كونها القوة الاجتماعية التى يجب أن يتدفق إليها أبناء الطبقات الأخرى من خلال الحراك الاجتماعى الصاعد أو الهابط، وإذا كانت هناك بعض الحواجز الطبقية قوية فى مجتمع ما قبل 1952، وهى الحواجز التى تصلبت حتى فصلت الجماعات الطبقية للمجتمع عن بعضها فى حالة أشبه ما يكون بحالة الطوائف، فإن مهمة الناصرية حينئذ تمثلت فى إذابة هذه الحواجز أو الفوارق، وإلغائها حتى يصبح التدفق قوياً من الجماعات الطبقية الأعلى أو الأدنى نحو ساحة الطبقة المتوسطة، ولقد تعمقت هذه القناعة فى عين التوجهات الناصرية بالنظر إلى عدة اعتبارات رئيسية .

1 –
الاعتبار الأول أن الطبقة الوسطى منذ بداية ظهورها وتبلورها وهى تلعب دوراً نضالياً، فهى التى ساندت (من خلال قطاعها التقليدى) محمد على باشا وأوصلته إلى سدة الحكم والسيطرة فى مواجهة القوة العثمانية المسيطرة والفرنسية الغازية، ثم هى التى لعبت دوراً أساسياً فى تجسيد المشروع الاجتماعى لمحمد على لتحديث مصر، ثم هى التى ناضلت من خلال ثوراتها المختلفة؛ ابتداء من الثورة العرابية، وثورة 1919، وثورة 1952، والتمردات الأخرى التى وقعت بين هذه الأحداث الشاملة فى مواجهة القوى الاستعمارية والأنظمة السياسية المتحالفة معها؛ للحفاظ على استقلال المجتمع وبقاء هويته ومن ثم فهى الطبقة ذات الطبيعة الإيثارية، التى ناضلت وقدمت دمائها من أجل أهداف عامة بصورة دائمة .
2 –
ويتمثل الاعتبار الثانى فى أن الطبقة المتوسطة تشكل الإطار الذى تلتقى على ساحته التباينات الاجتماعية فهى تضم فى إطارها ألوان الطيف الأيديولوجى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، حيث نجد لديهم جميعهم اتفاق حول قيم المواطنة والانتماء للوطن، وأن اختلفوا بعد ذلك حول أسس أو مستلزمات المواطنة والانتماء، لديهم جميعهم اتفاق حول ضرورة التنمية والتحديث، وإن اختلفوا فى السياسات التى تسلم لتحقيق هذه الأهداف، أو على شكل أو نموذج التحديث . على ساحة الطبقة المتوسطة تلتقى القطاعات التى تولى وجهها شطر التراث، مع تلك التى اقتنعت بأن قيم العلمانية وثقافة الغرب هى الرموز القادرة على تحديث المجتمع . تتفاعل على أرضها منظومات القيم المتباينة الصادرة عن كل مصدر واتجاه؛ لتخلق ثقافة وسطية تؤكد على حق الجماعة مثلما تؤكد على حق الفرد، تضغط على تأكيد قيم المواطنة والانتماء مثلما تطالب بضرورة وجود قدر من العدل الاجتماعى لتحقيق التوازن؛ فالتوازن والاستقرار لديها هو القاعدة، بينما التطرف فى أى اتجاه هو الاستثناء . لكل ذلك تشكل الطبقة المتوسطة الإطار الاجتماعى الذى يضم بداخله التناقضات الاجتماعية فى نسيج متماسك يسوده الانسجام .
3 –
ويتصل الاعتبار الثالث بكون الطبقة المتوسطة هى الطبقة التى تشكل غالبية المجتمع، فعلى الصعيد الرأسى تمتد الطبقة المتوسطة من الحدود العليا للطبقة العليا المحدودة، وحتى الحدود الدنيا للفقراء الذين يشغلون منطقة القاع فى بناء المجتمع . وعلى الصعيد الأفقى تمتد هذه الطبقة لتشمل التجمعات العديدة التى تتراص إلى جانب بعضها البعض وفق متغيرات النوع أو المهنة أو التعليم والثقافة أو الدين والتنوع الأيديولوجى، أو حتى تباين السياق الاجتماعى ومن ثم فهى تشكل الطبقة الغالبة فى المجتمع، وقضاياها هى قضايا الأغلبية فى المجتمع، وبسبب هذا الاتساع تتباين اتجاهات حركة أو سعى الطبقة المتوسطة، فقد تعمل تارة لتأكيد الاستقلال والسيادة للوطن وقد تضغط تارة ثانية على الأنظمة السياسية لفتح أبواب المشاركة أمام الجماهير، وقد تطالب تارة ثالثة بالتأكيد على معايير العدل الاجتماعى، فإذا كانت الظروف غير مواتية لتجسيد هذه القضايا جملة أو تفصيلاً انسحبت لتشكل جماعاتها فصائل للمعارضة التى تبدأ من النقد الذى يمكن أن ينتهى إلى العنف والتمرد على كل من يعوق مسيرة التنمية والتحديث فى المجتمع .
4 –
نظراً لأن الطبقة المتوسطة تشكل الطبقة الغالبة فى المجتمع، وهى التى تعبر عن أوضاعه واحتياجاته، فإن سلامة بناء هذه الطبقة على الصعيد الثقافى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى، سوف يعنى تماسك المجتمع واستقراره وتأكيد توازنه . أما إذا كانت الظروف غير مواتية لحياة الطبقة المتوسطة على هذه الأصعدة، فإن ذلك من شأنه أن ينعكس واضحاً على أوضاع المجتمع، حيث تشكل الطبقة المتوسطة عموده الفقرى، إذا أصيب الأخير فإن وجود المجتمع يصبح مهدداً، وتنكشف الجوانب المختلفة لأمنه القومى . ويؤكد التراث النظرى ذلك، ففى التراث الماركسى ينهار المجتمع ويحدث الصراع الاجتماعى والمواجهة بين الطبقات الاجتماعية المتناقضة إذا تآكلت الطبقة المتوسطة من خلال آلية الحراك الاجتماعى فصعدت إلى أعلى أو هبطت إلى أسفل، حيث يعد حدوث ذلك نذير إنهيار اجتماعى وشيك .

لكل الاعتبارات السابقة، وبسبب انتمائها الطبقى كذلك، سعت صفوة يوليو التى تبلورت من خلال ما أصبح يعرف بالناصرية إلى اعتبار الطبقة المتوسطة هى القوة الاجتماعية التى سوف تستند إليها فى معركة التنمية والتحديث، ومن ثم سعت بإجراءاتها وسياساتها المتنوعة إلى دفع البرجوازية العليا والطبقة الدنيا لعبور حدود الطبقة المتوسطة من ناحية، من خلال ما أصبح يعرف بتذويب الفوارق بين الطبقات، ومن ناحية أخرى وجهت هذه الصفوة سياساتها الاجتماعية الاقتصادية نحو الارتقاء بأوضاع الطبقة المتوسطة، لتشكل القوة الاجتماعية التى تتولى تجسيد عملية تنمية وتحديث المجتمع .

ثانياً : الناصرية ودفع البرجوازية العليا إلى أسفل :
أشرنا فى الصفحات السابقة إلى إدراك ثورة يوليو أن التنمية والتحديث سوف تستند إلى دعم الطبقة المتوسطة، التى لعبت دوراً نضالياً من الناحية التاريخية على كافة الأصعدة، وفى مختلف المجالات حتى دفعت بالصفوة المعبرة عنها إلى سدة الحكم من خلال ثورة 1952. ومن ثم فقد عملت هذه الصفوة على دعم الطبقة المتوسطة بتوسيع رقعتها من خلال الإضافة إليها من الطبقة الأعلى أو الأدنى، هذا بالإضافة إلى منحها بعض الامتيازات التى تساعد على تأكيد مكانتها بين مختلف الطبقات الاجتماعية .

ويعتبر التقليص التدريجى لكبار الملاك أحد آليات تذويب الفوارق الطبقية، بغرض فرض تآكل الطبقات الأخرى لصالح دعم الطبقة المتوسطة، ويتأكد ذلك إذ نحن قد نظرنا إلى خريطة الملكية الزراعية فى عام 1952، حيث بلغت المساحة الكلية للأرض الزراعية المصرية نحو 5.982.261، بلغت مساحة الملكيات الكبيرة التى تزيد على خمسين فداناً نحو 2.043.070 بنسبة 34% من الأرض الزراعية، بمتوسط ملكية 175 فدان لكل فرد، بينما كانت نسبة المساحة الكلية لكبار الملاك من إجمالى الأرض الزراعية فى عام 1914، 43.3% بمتوسط ملكية بلغ نحو 194 فداناً، وحيث بلغت نسبة كبار الملاك فى 1914 نحو 0.9% بينما أصبحت نسبتهم نحو 0.41% فى عام 1952(8). وهو ما يعنى أنه بينما انخفض عدد الملاك إلى النصف بين 1914 وحتى 1952 إلا أن مساحة الأراضى الزراعية المملوكة لهم انخفضت إلى الثلث تقريباً، الأمر الذى يعنى تركز عدد الملاك وتركز المساحة المملوكة لهم أيضاً .

وإذا حاولنا أن نوضح سوء توزيع الملكية الزراعية فى عام 1952، فإننا سوف نجد أن نسبة 94.4% من السكان الذين تقل ملكيتهم عن خمسة أفدنة يملكون 46.5% من الأرض الزراعية، فى حين نجد أن من يملكون أرض زراعية تتراوح يبن 5 – 20 فداناً بلغت نسبتهم 4.2% من الملاك يملكون نسبة 19.5% من الأرض الزراعية، ذلك فى مقابل أن نسبة 1.4% من الملاك يمتلكون أرضاً زراعية بنسبة 34% من إجمالى الأرض الزراعية المصرية، بحيث يمكن القول بأن بناء الأرض الزراعية المصرية كان بناء مهتزاً يفتقد التوازن المستند إلى مراعاة البعد الاجتماعى .

وحتى يمكن تقليص هذا التطرف فى هيكل توزيع الملكية الزراعية أصدرت صفوة يوليو مجموعة من قوانين الإصلاح الزراعى التى تتابعت من عام 1952 وحتى 1969، حيث حاولت هذه القوانين التخفيض المستمر والمتتابع للحد الأقصى للملكية الزراعية، فى هذا الإطار صدر القانون رقم 178 لسنة 1952، الذى وضع حد أقصى لملكية الفرد مائتى فدان بالإضافة إلى مائة فدان أخرى لأبنائه القصر، والقانون رقم 127 لسنة 1961 الذى نص على تخفيض الحد الأقصى لملكية الفرد إلى مائة فدان، ثم القانون رقم 50 لسنة 1969 الذى وضع حد أقصى لملكية الفرد بخمسين فداناً(9)، وهو ما يعنى أن هذه القوانين المتتابعة هبطت بالحد الأقصى لملكية الأرض الزراعية إلى خمسين فداناً هو السقف الأعلى للطبقة المتوسطة، الأمر الذى يشير إلى أنها دفعت بكبار الملاك إلى الوقوف إلى جانب الجدار الأعلى للطبقة المتوسطة، بحيث يدفعها قانون التوريث الإسلامى بعد أقل من جيل إلى قلب الطبقة المتوسطة .

بالإضافة إلى ذلك فقد اتخذت الصفوة الثورية لثورة يوليو مجموعة من الإجراءات وأصدرت مجموعة من القوانين أو القرارات، التى تم على أساسها مصادرة ممتلكات الأسرة المالكة، وتحويل أراضى الوقف الأهلى، ثم الخيرى إلى الإصلاح الزراعى، وشراء الأراضى التى وضعت تحت الحراسة عام 1956 بما فى ذلك الخاصة بالشركات وغيرها من المؤسسات، والاستيلاء على أراضى الأجانب، وحظر تملكهم الأراضى الزراعية، وأيلولة ممتلكات الأشخاص الذين فرضت عليهم الحراسة لدواعى الأمن العام إلى الدولة(10) . وهو الأمر الذى يعنى أن الصفوة السياسية لاحقت الملكيات الكبيرة أياً كانت طبيعتها، بحيث دفعتها إلى أن تضاف إلى ساحة الشرائح المختلفة للطبقة المتوسطة .

وبرغم أن المساحة الكلية التى استولت عليها مجموعة قوانين الإصلاح الزراعى لم تتجاوز مساحة 12.5% من مساحة الأراضى الزراعية المصرية، غير أنها إلى جانب تنظيم العلاقات الإيجارية على مستوى الأرض الزراعية شكلت تعديلات جذرية فى بناء الزراعة المصرية، وهو التعديل الذى تحقق بفاعلية مجموعة القوانين التى صدرت لتقلص مساحة الأرض الزراعية المملوكة لكبار الملاك على النحو التالى :
-
القانون رقم 178 لسنة 1952 مساحة 450305 فدان
-
القانون رقم 1952 لسنة 1957 مساحة 110451 فدان
-
القانون رقم 127 لسنة 1961 مساحة 214132 فدان
-
القانون رقم 44 لسنة 1962 مساحة 38336 فدان
-
القانون رقم 15 لسنة 1963 مساحة 61910 فدان
-
القانون رقم 150 لسنة 1964 مساحة 43516 فدان
-
الأراضى التى اشترتها الجمعيات التعاونية مساحة 25807 فدان
-
مجموع الأراضى التى تم الاستيلاء عليها بفعل
القوانين السابقة
944457
فدان
-
ما تم استنزاله نتيجة الاعتراضات القضائية 72137 فدان
-
جملة المساحة التى فى حيازة هيئة الإصلاح الزراعى 872320 فدان
-
جملة المساحة التى خضعت بصورة أو بأخرى للإصلاح
الزراعى(11) 990153 فدان
-
أراضى طرح النهر ومساحتها(12) 58590 فدان

ويكشف تأمل فاعلية قوانين الإصلاح الزراعى أنه إذا كانت الأرض التى تم الاستيلاء عليها قد بلغت نحو 12.5% من جملة الأراضى الزراعية المصرية عام 1965، فقد وزعت على الأسر المعدمة أو ذات الملكية الزراعية المحدودة، حيث استفادت منها حوالى 242 ألف أسرة، تمثل نحو 9.5% من إجمالى العائلات المشتغلة بالزراعة عام 1970(13) .

فإذا تأملنا حركة الأرض الزراعية بالنظر إلى مختلف الطبقات الاجتماعية استناداً إلى حجم الحيازة فسوف تبرز لنا مجموعة الحقائق التالية :
·
ارتفاع عدد ملكيات الشريحة أقل من خمسة أفدنة من 2642 ملكية قبل 1952· إلى 3841 بعد تطبيق القانون رقم 1952 إلى 2919 عام 1961 إلى 3033 عام 1965، وهو ما يشير إلى ازدياد حجم هذه الشريحة .
·
اتجاه عدد ملاك الشريحة من 100 – 200 فدان إلى الارتفاع من 3000 مالك· إلى 5000 مالك عام 1961 إلى 4000 مالك عام 1965 على حين نقصت المساحة المملوكة لهذه الفئة من 437 ألف فدان عام 1952 إلى 421 ألف فدان عام 1965 .
·
اختفت شرائح الملكية 200 فدان فأكثر، حيث انخفضت ملكيتها من 1177 ألف· فدان قبل 1952 إلى 354 ألف فدان بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعى فى عام 1952، ثم اختفت هذه الشريحة تماماً، ومن ثم تكون هى الشريحة التى استهدفتها قوانين الإصلاح الزراعى بالأساس(14).

زاد عدد أفراد شريحة الملاك فى الفئة من 5 – 10 أفدنة من 2.40% من عدد الملاك فى عام 1965 إلى 7.8% من الملاك عام 1973، وزادت المساحة التى يمتلكونها من 9.5% من مساحة الأرض الزراعية فى عام 1965 إلى 11.2% من مساحة الأرض الزراعية فى 1973، كما زادت مساحة الملكية الزراعية عشرة أفدنة فأكثر من 33.4% من المساحة الكلية سنة 1965 إلى 62.7% عام 1973 (15) .

وتشير مجموعة الحقائق السابقة إلى أن الطبقة المتوسطة كانت هى الفاعل الذى ربح غالبية الأرض الزراعية التى تم الاستيلاء عليها، حيث نالت الطبقة المتوسطة نحو 614 ألف فدان من مساحة الأرض التى تم توزيعها، والتى بلغت مساحتها نحو 817558 فدان بينما نالت الطبقة الدنيا نحو 214 ألف فدان فقط(16)، وهو ما يعنى تحيز النظام الناصرى للطبقة المتوسطة، يؤكد ذلك أن قانون توزيع الأراضى المنزوعة ملكيتها قد نص على توزيع هذه الأراضى خلال فترة خمس سنوات على صغار المستأجرين والفلاحين المالكين لأقل من خمسة أفدنة من الأراضى الزراعية؛ حيث حددت المادة التاسعة أولويات التوزيع (لمن كان يزرع أرضاً فعلاً مستأجراً كان أم مزارعاً، أو لمن هو أكبر من حيث عدد أفراد العائلة، ثم لمن هو أقل مالاً منهم، ثم لغير أهل القرية) (17) .

وارتباطاً بذلك فإننا نلاحظ انخفاض عدد العائلات الفقيرة (تحت خط الفقر) من 35% من جملة عائلات الريف فى عام 58/1959 إلى 26.8% عام 64/1965، ثم ارتفع ثانية إلى 44% عام 74/1975 ثم انخفضت نسبة السكان الريفيين تحت خط الفقر من 22.5% عام 58/1959 إلى 17% عام 64/1965 إلى 28% عام 74/1975، الأمر الذى يعنى مسألتين: أن قوانين الإصلاح الزراعى دفعت بنسبة من فقراء الريف من مكانتهم تحت خط الفقر إلى أعلى، حيث قيادة نوعية حياة ملائمة بعيداً عن خط الفقر، وهو ما يعنى انتماؤهم إلى الطبقة المتوسطة. بينما تتمثل الملاحظة الثانية فى أن ارتفاع نسبة العائلات أو السكان تحت خط الفقر عام 74/1975 إنما يرجع بالأساس كما قيل إلى التفتت الذى يصيب الأرض الزراعية بفعل قوانين التوريث الإسلامى، الأمر الذى يدفع بشريحة من السكان إلى ما دون خط الفقر بعد أن كانت تقود نوعية حياة ملائمة، هذا إلى جانب تغير التوجه الأيديولوجى، وبداية نظام سياسى واقتصادى جديد يعمل لغير صالح الطبقة المتوسطة .

جملة القول أن قوانين الإصلاح الزراعى قد لعبت دوراً أساسياً فى توسيع نطاق الطبقة المتوسطة، عن طريق دفع قطاعات من الطبقة العليا إلى داخل الطبقة المتوسطة بفاعلية قانون الإصلاح الزراعى وقوانين التوريث الإسلامى، كما دفعت ببعض أبناء الطبقة الدنيا للالتحاق بالطبقة المتوسطة عن طريق توسيع ملكياتهم الصغيرة من خلال مساحة تضاف إليها استقطاعاً من الأراضى المستولى عليها، أو عن طريق منحهم ملكيات تحولهم من معدمين إلى ملاك لهم شرعية الالتحاق بالطبقة المتوسطة .

بالإضافة إلى ذلك فقد قام النظام بتقليص النفوذ السياسى للطبقة العليا بفرض بعض الحرمانات السياسية عليها، حتى يزيد من إضعافها، ويفتح الطريق واسعاً أمام أبناء الطبقة المتوسطة ليشغلوا مكانات المراتب المختلفة فى البناء السياسى، وحتى يتمكنوا من تطوير نفوذ اجتماعى وسياسى يتجاوزون به مكانة الطبقة العليا أو الإرستقراطية الزراعية والحضرية على السواء .

ثالثاً : دفع الناصرية للشرائح الدنيا إلى أعلى :
بالإضافة إلى فتح أبواب الطبقة المتوسطة من أعلى لتتسرب منها بعض عناصر طبقة كبار الملاك فتحت أبواب الطبقة ليلتحق من خلالها الفقراء بالشرائح الدنيا للطبقة المتوسطة، وإذا كان الانتقاص أو التقليص هو آلية ضم بعض عناصر الطبقة العليا إلى الطبقة المتوسطة، فإن الإضافة شكلت آلية ملائمة ومقابلة لدفع الفقرء المتمثلون حينئذ فى العمالة الزراعية والعمالة الحضرية فى الصناعة، حيث اتخذت ثورة يوليو عديد من الإجراءات التى جعلت فى ميسور الطبقة العاملة عموماً أن تلتحق بنوعية حياة الطبقة المتوسطة بشرائحها المختلفة .

وفيما يتعلق بالعمالة الزراعية، فإننا نجد أن هذه الشريحة قد تضخمت بسبب الثبات النسبى لمساحة الأرض الزراعية فى مواجهة التزايد المفرط للكتلة السكانية؛ فبينما كانت مساحة الأرض الزراعية فى 1897 نحو 5.1 مليون فدان والمساحة المحصولية 6.8 مليون فدان، كان عدد السكان حوالى 9.7 مليون نسمة . وإذا كانت مساحة الأرض الزراعية قد تزايدت فى سنة 1960 لتصل إلى 5.8 مليون فدان، والمساحة المحصولية إلى 10.3 مليون فدان، فإن عدد السكان بلغ نحو 26 مليون نسمة . الأمر الذى يؤدى إلى تخلق فائض من السكان لا أرض زراعية لهم، أو لديهم ملكيات قزمية غير صالحة للزراعة ومن ثم فهم يعتمدون على بيع قوة عملهم حتى يتمكنوا من البقاء أحياءاً (18) .

وفى محاولة لتقدير حجم الطبقة الزراعية العاملة، فإننا نجد أن أول تقدير لهم كان فى عام 1937، حيث تم حصرهم وبلغ عددهم حوالى 1.457.267 عاملاً، ثم تزايد هذا العدد حتى بلغ عام 1945 إلى حوالى 2 مليون ، بينما بلغ عدد فقراء الفلاحين عام 1936 نحو 1.677.000 نسمة، متوسط ما يملكه الفرد حوالى 0.41 من الفدان ، واتسعت هذه الشريحة لتصل عام 1950 إلى نحو 1.981.339 فرداً بمتوسط ملكية بلغ 0.39 من الفدان للفرد الواحد، بعض هؤلاء هاجر إلى المدن بحثاً عن فرص عمل غير موجودة فى الريف، والبعض الآخر مارس العمل بالزراعة بالبقاء فى قريته، والبعض الثالث ترحل إلى قرى أخرى باحثاً عن عمل لدى المقاولين الزراعيين، ومن ثم شكل كتلة عمال التراحيل الذين بلغت أجورهم حدوداً دون حد الكفاف إضافة إلى ظروف عمل لا إنسانية يعملون فى إطارها (19).

وفى مواجهة الظروف التى تعيشها هذه الشريحة نجد أن قانون الإصلاح الزراعى رقم 1978 لسنة 1952، قد حاول التصدى لمعالجة هذه المشكلة . فإلى جانب تمليك العاملين بالزراعة منهم أرضاً زراعية ليصبحوا ملاكاً صغار، فإن القانون حدد الحد الأدنى للأجور بنحو 25 قرشاً، بينما كانت الأجور الواقعية تتراوح بين تسعة قروش واثنى عشر قرشاً، هذا إلى جانب تحديد عدد ساعات العمل، والظروف التى يتم فى إطارها العمل، إضافة إلى ذلك فقد أباح القانون لعمال الزراعة وعمال التراحيل إمكانية تشكيل نقابات لهم فى الريف (20) .

وكما قامت الدولة بتقليص فاعلية طبقة كبار الملاك مارست نفس السلوك تجاه الطبقة العليا الحضرية، وإن كان متأخراً فى التاريخ، ولإنجاز ذلك بدأت الدولة فى اتخاذ إجراءات حادة؛ ففى عام 1960 نقلت ملكية بنك مصر والبنك الأهلى إلى الدولة، وتلى ذلك نقل التزامات شركات النقل إلى مؤسسة النقل العام بالقاهرة، ثم إسقاط التزام شركة الترام البلجيكية، ثم تأميم استيراد الأدوية، ثم تأميم المصالح البلجيكية وعلى رأسها البنك البلجيكى وشركة مصر الجديدة ومجموعة الشركات التابعة لها، وحرم استثمار رأس المال الأجنبى إلا بقرار جمهورى .. وفى يوليو 1961 صدرت قوانين التأميم الثلاثة الرئيسية 117 ، 118 ، 119 لسنة 1961 فأممت 80 شركة تأميماً كاملاً ، وأسهمت الحكومة فى 83 شركة ، ثم نص القانون رقم 119 على أن لا يزيد ما يملكه الفرد على عشرة آلاف جنيه فى رأس مال كل من 145 شركة متنوعة .

وفى عام 1962 أنشئت المؤسسة العامة للمخابز والمطاحن ومضارب الأرز، ثم شهد عام 1963 سلسلة من التأميمات؛ فأممت جميع منشآت تصدير القطن وجميع محالج القطن و14 شركة أدوية وسحب تراخيص 40 مصنعاً ومعملاً للدواء ، وأممت 8 شركات للمقاولات البحرية والملاحة فى أغسطس 1963، ثم تأميم 328 شركة تأميماً كاملاً . وفى مارس 1964 استكمل القطاع العام صورته حينئذ ، بإجراءات هامة منها تأميم شركات المقاولات الموجودة بالقطاع العام (119 شركة تأميماً كاملاً) ، وتأميم شركة شل وآبار الزيوت، وتأميم شركات التجارة الخارجية تأميماً كاملاً، ومصادرة كل ما زاد على 39 ألف جنيه من ثروة كل من وضع تحت الحراسة، وقصر التعويض عن التأميم على 150.000 جنيه لكل فرد، وإلغاء التعويض عن الأراضى التى يستولى عليها الإصلاح الزراعى (21) .

وإذا كانت حركة التأميم والتمصير التى أشرنا إليها قد قامت بتقليص فاعلية الطبقة العليا أو البرجوازية الحضرية، وهى الحركة التى تأسس استناداّ إلى شركاتها القطاع العام، الذى أصبح القاطرة التى تقود عملية التنمية والتحديث، فإننا نلاحظ أن هذا السياق الجديد كان ملائماً لنمو الطبقة العاملة الحضرية، حيث قضى القانون رقم 111 لسنة 1961 بحق العمالة فى نسبة 25% من الأرباح، كذلك مشاركة العمال فى الإدارة، حيث نص القانون رقم 114 لسنة 1961 بتخصيص مقعدين فى مجالس إدارة الشركات للعمال والموظفين، كذلك تحديد ساعات العمل بسبع ساعات يومياً، وإثنين وأربعين ساعة عمل فى الأسبوع، كما أكد القانون على رفع الحد الأدنى للأجور إلى 25 قرشاً . ومن ثم فإن ذلك يعنى أن الصفوة السياسية خلقت سياقاً اجتماعياً مواتياً لنمو الطبقة العاملة الحضرية، وأبرز أبعاده هو ضرب القوى البرجوازية التى كانت تقهرها .

وإذا كانت قوة العمل هى المحور الرئيسى للطبقة العاملة، باعتبار أن قوة العمل بالإضافة إلى أسرها تشكل قوام الطبقة العاملة الحضرية، فإننا سوف نجد أن مجموع قوة العمل الحضرية قد بلغ فى عام 1960 نحو ستة ملايين و917 ألف عامل؛ أى حوالى سبعة ملايين تقريباً بنسبة 46.2% من إجمالى قوة العمل المصرية، بلغ عدد الذكور منهم نحو 94.2% على حين بلغت نسبة الإناث نحو 5.8% .

ذلك بالإضافة إلى كثير من الامتيازات التى شاركت فيها الطبقة العاملة (الريفية والحضرية) الطبقة المتوسطة، كمجانية التعليم، وفتح قنوات الحراك الاجتماعى أمام أبناءها بلا قيود، هذا بالإضافة إلى دعم السلع بما يرفع القوة الشرائية للأجور، بحيث وجدنا أن كثيراً من عناصر الطبقة العاملة بدأت تصعد وتدخل مباشرة إلى ساحة الطبقة المتوسطة؛ لتقود نفس نوعية حياتها، فإن لم تدخل مباشرة إلى ساحة هذه الطبقة، فعلى الأقل أسست الظروف التى يسرت لأبناء الطبقة العاملة الدخول بقوة وجدارة إلى عمق الطبقة المتوسطة .

رابعاً : الناصرية وتطوير أوضاع الطبقة المتوسطة :
أشرنا إلى أن المشروع الاجتماعى لصفوة يوليو قد تأسس على خلفية الطبقة المتوسطة، التى مهدت بنضالها التاريخى لبلورة هذا المشروع من خلال نضالها ومسيرتها التاريخية، وحينما قامت ثورة يوليو 1952 حاولت تجسيد هذا المشروع الاجتماعى الذى يخلق الظروف المواتية لتطور الطبقة المتوسطة، التى نظرت إلى نوعية حياتها باعتبارها النموذج الذى ينبغى تعميمه فى المجتمع، كما نظرت إليها باعتبارها القوة الاجتماعية التى سوف يعتمد عليها النظام السياسى فى تجسيد أهدافه، أو فى مواجهة أعدائه، ومن ثم فقد تحيزت سياساتها الاجتماعية والتنموية لهذه الطبقة .

وتأكيداً لذلك فإننا نجد أن سياساتها فى الإصلاح الزراعى مثلاً لم تمس مصالح الطبقة المتوسطة، بل إننا نجد أنها عملت فى اتجاه مصالح هذه الطبقة بالأساس؛ فمثلاً كسبت الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة (الشريحة من 5 – 10 أفدنة) 88 ألف فدان من أراضى الإصلاح الزراعى المستولى، وكسبت الشريحة من 20 – 50 فدان 161 ألف فدان، ناهيك عن المساحات التى أضيفت إلى الشريحة أقل من خمسة أفدنة، وهو ما يعنى أن غالبية الأرض المستولى عليها ذهبت إلى صغار ومتوسطى الملاك، وهم جميعهم يمثلون الشرائح المختلفة للطبقة المتوسطة . بل إننا إذا تأملنا قوانين الإصلاح الزراعى جميعها ابتداءً من القانون الأول الصادر فى 9 سبتمبر سنة 1952، وحتى القانون رقم 50 لسنة 1969، لوجدنا أنها لم تتجاوز الحد الأقصى (50 فداناً للفرد) المتاح للطبقة المتوسطة فى مجتمع بلغ متوسط الملكية فيه نحو 0.18 من الفدان ، وبه معدمين تجاوزت نسبتهم نحو 40% من سكان القطاع الريفى(22) .

ولقد حدث شئ مماثل فى مجال التنمية الصناعية، حيث نجد أن الصفوة السياسية تؤسس السياسات التنموية التى تخدم مصالح واحتياجات الطبقة المتوسطة، وعلى سبيل المثال نجد أن سياسة إحلال الواردات هى السياسة التى اتبعت وهى السياسة التى تسعى إلى تصنيع السلع المعمرة التى تحتاجها هذه الطبقة أو تشبع سلوكياتها الاستهلاكية (كالسيارات، والثلاجات، والغسالات، والتليفزيون والراديو)، حيث استوعبت هذه الصناعات فى الفترة من 1956 نحو 49% من الميزانية المرصودة للتنمية الصناعية، بينما لم تنل الصناعات الرأسمالية الثقيلة سوى 8% . وهو ما يعنى أن التوجيه الأيديولوجى الذى حكم سلوك الصفوة السياسية فى هذه المرحلة تمثل فى إشباع طموحات الطبقة المتوسطة والصغيرة، وإعطاء الأولوية لحاجاتها الاستهلاكية، وقد أكد ذلك ما صرح به الدكتور عادل جزارين أحد رموز هذه المرحلة بأن "شركته ( شركة النصر لصناعة السيارات) بدأت تحقق خسائر والسبب هو الأسعار، فأسعار السيارات لا تتحرك منذ خمس سنوات فى مصر، بينما أسعارها فى العالم كله تتحرك بسبب زيادة الأجور وزيادة تكاليف مكونات الإنتاج، والشركة تستورد مكونات الإنتاج بأسعار مرتفعة، وفى نفس الوقت هى ممنوعة من رفع السعر، ثم تساءل ، هل السيارة رغيف عيش، أو صفيحة زيت، أو كستور شعبى، فلا ترتفع أسعارها، بل وتدعم من قبل الدولة؟(23) .

بالإضافة إلى ذلك فقد أسست صفوة يوليو السياسات الاجتماعية التى تعمل جميعها لصالح الطبقة المتوسطة مثل مجانية التعليم والإلزام التعليمى، إضافة إلى رفع مستويات الخدمات الأساسية لأبناء هذه الطبقة كالصحة والإسكان وتوسيع مظلة التأمينات الاجتماعية، وتشغيل الخريجين من أبناء هذه الطبقة التى ينتمى إليها 85% من طلاب الجامعات . إضافة إلى فتح الأبواب أمام أبناء هذه الطبقة لشغل أعلى المراكز فى البيروقراطية الحكومية، الأمر الذى فتح أمامها أبواب السيطرة على الجهاز الحكومى(24)، وهو الجهاز الذى تولى تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسات التى تتولى تجسيد هذه الأهداف .

ولقد دفعت هذه الظروف المواتية للطبقة المتوسطة، والتى يسرتها الصفوة السياسية إلى انطلاق موجات عالية ومتتابعة للحراك الاجتماعى ابتداء بالحراك الاجتماعى من القرية إلى المدينة؛ حيث استقبلت السياقات الحضرية بعد 1952 أعداد كبيرة من المهاجرين، من هذه العوامل التوسع الكبير فى التعليم الذى أصبح مجاناً فى كل مراحله وحتى المرحلة الجامعية، إضافة إلى إجراءات التأميم والحراسة، والإسراع بالتنمية الصناعية والزراعية، ونمو المؤسسة العسكرية وتزايد امتيازاتها، وكذلك نمو البيروقراطية المصرية بسبب تزايد تدخل الدولة فى الحياة الاجتماعية والسياسية، والتزام الدولة بتعيين الخريجين(25) . وهو ما يعنى أن المشروع الاجتماعى لثورة يوليو، والذى تعبر عنه الناصرية ظل المشروع الذى يعمل على تنمية الطبقة الوسطى، وتطوير قدراتها وإشباع احتياجاتها، اعتقاداً منها أنها القوة ذات التاريخ النضالى المشرف، ومن حقها أن تحصل على بعض من الكعكة التى ناضلت من أجلها، ثم أنها القوة التى يمكن أن يعتمد عليها النظام السياسى فى تأسيس مشروعاته التنموية، وفى حراسة منجزاته وأيضاً فى صراعه مع البرجوازية العالمية والمحلية .

خامساً : الناصرية والمسألة الطبقية ، حصاد عقدين :
استمرت سيطرة الناصرية وسياساتها فى تذويب الفوارق الطبقية فى اتجاه الالتحام بالطبقة المتوسطة لفترة عقدين من الزمن، تغيرت فيها مظاهر كثيرة فى الحياة المصرية؛ فقد اتسعت مساحة الطبقة المتوسطة وتسرب أبناءها فى القطاعات المختلفة لجهاز الدولة أو النظام السياسى، حيث سيطرت عناصر هذه الطبقة على الاتحاد الاشتراكى كتنظيم سياسى وحيد، كما سيطرت على البيروقراطية الحكومية، حيث تولى أبناؤها شغل الوظائف فى قطاعاتها المختلفة، فى الصحة والتعليم والإسكان كما شكل أبناء هذه الطبقة قوام القوات المسلحة، وأجهزة حفظ الأمن الداخلى، بحيث يمكن القول بأن نظام يوليو استند إلى قاعدة الطبقة المتوسطة، قام بتحديث المجتمع وتنميته ، وحتى بقيادة معاركه من وجهة نظرها . غير أن هذه التجربة خضعت لممارسات أضعفت مسيرتها، وشوهت بعض إنجازاتها الرائعة، بحيث أنتجت هذه الممارسات أثاراً أسقطت التجربة بكاملها، بعض هذه الممارسات النظام السياسى مسئول عنها، بينما البعض الآخر تقع مسئوليته على الطبقة المتوسطة ذاتها، على حين تعتبر الظروف العالمية والإقليمية هى المسئولة عن البعض الثالث .

وتتمثل الممارسات التى سقط فيها النظام السياسى، فى أن تجربة التنمية والتحديث التى قام بتأسيسها قامت بوكالة عن الجماهير وعن الطبقة المتوسطة؛ فبرغم الإعلانات الديمقراطية التى إنطلقت فى كل اتجاه، كانت القرارات والسياسات ذات طبيعة علوية دائماً، حيث لم تتح المشاركة الواسعة التى تساعد على ترشيد القرار السياسى ونشر الالتزام به، وبرغم الإعلانات الأيديولوجية، ابتداء من التأكيد على القومية العربية وحتى الاشتراكية، لم تبذل محاولات حقيقية لتربية الجماهير وبخاصة أبناء الطبقة المتوسطة وفق القيم والمعايير التى تشكل متضمنات هذه الإعلانات الأيديولوجية، بل أننا نلاحظ أن النظام السياسى قد بعثر الثورة النضالية للطبقة المتوسطة، حينما فرض الوصاية القوية عليها، كما رفض سماع الرأى الآخر بل التعامل معه بقسوة فى أحيان كثيرة، كما حدث فى تعامل النظام السياسى مع جماعة الأخوان المسلمين من أبناء هذه الطبقة، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى إخماد جذوة النضال التى امتلكتها هذه الطبقة طيلة تاريخها، وظلت تتكشف متتابعة فى مراحل التاريخ المتعاقبة حتى 1952 .

وإذا كان النظام السياسى قد نجح فى تذويب الفوارق بين الطبقات لصالح الطبقة المتوسطة، بحيث تصبح هى الطبقة التى تحتل مكانة الصدارة على خريطة المجتمع، فإنه بإقصائها عن المشاركة وفرض الوصاية عليها، دفعها إلى الحياة سيكلوجياً على هامش التفاعل الاجتماعى الحادث، ومن ثم فقد عجز عن تعبئة قدراتها النضالية فى اتجاه تنمية وتحديث المجتمع، فالسياسات القائمة وإن أشبعت احتياجاتها إلا أنها لم تشارك فى صياغتها، ومن ثم فقد شاركت هذه الطبقة فى تجسيدها بروح بيروقراطية، وليس بتكريس روح نضالية وثورية .

فى مقابل ذلك هناك بعض الممارسات التى سقط فيها أبناء الطبقة المتوسطة أنفسهم، حيث وجدت هذه الطبقة نفسها تناضل قبل 1952 من أجل مجتمع، وتدفع دماءها دون أن تجنى شيئاً، اللهم إلا استقلال الوطن وتخليصه من القوى المعوقة لحركته (كالاستعمار والقصر)، ولقد كان من المتوقع أن تحافظ الصفوة الثورية على هذه الروح النضالية، وأن تتجنب القول الشائع "بأن الثوار يميلون إلى أن يأكلوا كعكة ثورتهم"، بل كان من المتوقع أن تنظم الصفوة هذه الطبقة لتدفعها إلى صناعة كعكة التنمية والتحديث بعد أن صنعت كعكة الاستقلال، بحيث تحافظ على هذه الروح النضالية لتعمل فى ظل ظروف مواتية .

غير أن الصفوة الثورية تصرفت بغير ذلك، فأسست السياسات التى تستجيب لمصالح واحتياجات هذه الطبقة، أعطتها التعليم، والوظيفة والمسكن الرخيص، والسلع التى تنال دعماً لتوسع نطاق استهلاكها، فأشاعت الاسترخاء فى حياة هذه الطبقة، وحسب نظرية التبادل نشأت علاقة متبادلة بين النظام السياسى والطبقة المتوسطة، أو أبناءها الذين استطاعوا التنقل من خلال الحراك الاجتماعى، حيث أعطتهم الدولة بالمجان وبسهولة كل شئ، وبصورة مأمونة ومضمونة، وإذا كان العطاء فى التبادل من أحد الأطراف مأموناً ومضموناً، فإن الطرف الآخر فى علاقة التبادل يميل إلى أن يكون عطاءه صفرياً، يحصل على كل شئ فى مقابل لا شئ . حيث اعتاد أبناء هذه الطبقة أن يحصلوا من دولتهم على كل شئ، دون تقديم لعطاء مناظر، نوع من العلاقة الأبوية، حيث الأب مسئول عن راحة وإسعاد أفراد الأسرة .

بل إننا نجد أن هذه الطبقة – برغم المكاسب العديدة التى حصلت عليها- تعاملت بمنطق انتهازى مع النظام السياسى والمجتمع، فحينما شغلت مراكز رفيعة ومتنوعة فى البيروقراطية الحكومية، نجدها قد حولت هذه الوظائف إلى مصادر للثراء، وإذا كانت الطبقة العليا لها مصادر الثراء المتمثلة فى ملكيتها، فلتكن الوظيفة العامة هى مصدر ثراء أبناء الطبقة المتوسطة، فى هذا الإطار حدثت قطيعتين: الأولى قطيعة بين حاضر هذه الطبقة وتاريخها النضالى، وتنكرها له تارة مستغلة وظائفها لتتداخل مع أبناء البرجوازية العليا، إما من خلال المشاركة فى المشروعات، مستغلة فى ذلك مراكزها فى البيروقراطية الحكومية أو القطاع العام، أو من خلال الدخول مع أبناء هذه الطبقة فى علاقات إصهار ونسب، حيث شكل هذا المنطق الانتهازى قطيعة مع تراثها، وأصبح مدخلاً لنشأة ظاهرة الفساد والانحراف العديدة التى شاعت فى المجتمع .

ولقد كانت القطيعة الثانية مع النظام السياسى الذى أقصاها عن المشاركة، وصادر الرأى الآخر لأبنائها، ومن ثم فحينما واجه النظام السياسى – الذى منحها امتيازات عديدة – أزمة أو هزيمة أو نكسة لم تحاول هذه الطبقة التقدم للدفاع عنه، أو مساندته، بل وبدأت الشكوك تساورها فى كفاءة صفوتها. وحينما تراجعت صفوة يوليو بوفاة زعامتها، لم تزرف هذه الطبقة دموعاً عليها، ولم تناضل من أجل الحفاظ على منجزاتها، بل استسلمت لحالة من افتقاد الثقة، ومع بداية السبعينيات جاءتها رياح عديدة لا تشتهيها سفنها، فتقاتل أبناؤها وتبددت قدراتها، وكانت البرجوازية العليا – التى همشت كثيراً طيلة المرحلة السابقة – فى الانتظار، فامتطت الجياد ودفعتها على طريق جديد .

ولقد كانت الظروف الإقليمية والعالمية غير مواتية كذلك، حيث بدأ التوازن العالمى يميل لصالح القوى الرأسمالية التى تقوده البرجوازية العليا، ودفع ذلك إلى انتعاش البرجوازيات العليا الإقليمية التى بدأت تضغط على تجارب الطبقات المتوسطة التنموية من كل اتجاه. وإذا كان عقد الخمسينيات وبداية الستينيات قد شهد نجاح ثورات العالم الثالث، وتحقيقها لاستقلال مجتمعاتها، فقد شهد عقد الستينيات والسبعينيات، انتكاسة الثورات فى العالم الثالث، وهى الثورات التى تأسست مستندة إلى نضال الطبقة المتوسطة . على هذا النحو فرضت البرجوازية العالمية والإقليمية على صفوة يوليو والطبقة المتوسطة التى تشكل سياقها أو إطارها معارك كثيرة: فى اليمن، وعلى أرض سيناء فى 1967، فأرهقتها وبددت مسيرتها، بل وأسقطت تجربة رائعة لتذويب الفوارق بين الطبقات، استناداً إلى مشروع اجتماعى يؤكد على توسيع نطاق وإمكانيات الطبقة المتوسطة، سقطت التجربة فى الغالب بأخطاء أطرافها أو حراسها، ولو أنهم استمروا فى تطوير التجربة بلا أخطاء لتخلق واقع آخر ومشرق، ولكننا الآن فى وضع آخر نحسد عليه .
ملحوظة:

المراجع

1 –
سعد الدين إبراهيم، أزمة مجتمع أم أزمة طبقة؟ دراسة فى أزمة الطبقة المتوسطة الجديدة، مجلة المنار، العدد السادس، السنة الأولى، يونيوحزيران، 1985، ص 19 .
2 -
نفس المرجع ، ص 19 .
3 –
طه عبد العليم، بنية الطبقة العاملة الصناعية المصرية (فى) قضايا فكرية، الكتاب الخامس، القاهرة، مايو، 1987، ص ص 69 – 83، بخاصة ص 72.
4 –
سعد الدين إبراهيم، مرجع سابق ، ص 18 .
5 –
على ليلة، الآثار الاجتماعية للإصلاح الزراعى (فى) الإصلاح الزراعى فى مصر، الأصول التاريخية والجوانب الاقتصادية والاجتماعية، إشراف السيد يس، منشورات المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1981، ص ص 254 – 267 .
6 –
سعد الدين إبراهيم، مرجع سابق، ص 21 .
7 –
نفس المرجع ، ص 22 .
8 –
على بركات، تطور أوضاع الملكية الزراعية فى مصر (1813 – 1952)، (فى) السيد يس، الإصلاح الزراعى فى مصر، مرجع سابق، ص 48.
9 –
طه عبد العليم، الآثار الاقتصادية للإصلاح الزراعى، (فى) السيد يس، الإصلاح الزراعى فى مصر، مرجع سابق، ص 112 .
10 –
نفس المرجع السابق ، ص 112 .
11 –
سعد هجرس، الإصلاح الزراعى فى جمهورية مصر العربية، إبريل 1968، ص ص 15 – 18 .
12 –
مصطفى طيبة، ثورة يوليو والفلاحون، مجلة الطليعة عام 1965، يوليو، العدد 7 ، ص ص 132 – 139، بخاصة ص 135 .
13 – Radwan Samir, The Impact of Agrarian Reform on Rural Egypt, Geneva, 1977, p. 16.
14 –
على ليلة ، مرجع سابق، ص 291 .
15 –
طه عبد العليم (فى) الآثار الاقتصادية للإصلاح الزراعى، مرجع سابق، ص 175 .
16 –
نفس المرجع ، ص 109 .
17 –
على ليلة ، مرجع سابق ، ص 298 .
18 –
عبد المنعم الغزالى الجبالى، 75 عاماً من تاريخ الحركة النقابية المصرية، العربى للنشر والتوزيع، القاهرة 1991، ص ص 267 – 273 .
19 –
على ليلة ، الآثار الاجتماعية للإصلاح الزراعى، مرجع سابق، ص 249 .
20 –
نفس المرجع، ص 181 .
21 –
على ليلة ، الثابت والمتغير فى بناء الطبقة العاملة المصرية، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، 12 ندوة، مايو 2002، ص 26 .
22 –
على ليلة ، العالم الثالث ، مشكلات وقضايا، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1987، ص 122 .
23 –
الأهالى ، الدعم أم الانفتاح، مقال ، الصفحة الثالثة فى 5/1/1983 .
24 –
محمود عودة، على ليلة، تاريخ مصر الاجتماعى، التعليم المفتوح، 2001، ص 298 .
25 –
جلال أمين، ماذا حدث للمصريين، تطور المجتمع المصرى فى نصف قرن 1945 – 1995، دار الهلال، القاهرة، 1997، ص

ليست هناك تعليقات: