2008/07/30

الـقـنــطـــــــار


بقلم : رشاد أبوشاور

الفتى الذي كان في الثامنة عشرة فجر يوم 22 نيسان 1979 ، والذي قضى ثلاثين عاما في المعتقلات، والزنازين الإنفراديّة، في ظروف لا يمكن وصفها، ورصاصة تستقر في إحدى رئتيه، تحرمه من التنفّس الطبيعي، إضافة إلى معاناته من مرض الربو الذي تسببت له به رطوبة غرف السجن، وعتمتها، وضيقها، وعزلته وحيدا لفترات طويلة يحدّث فيها نفسه عن الحرية ...

هذا الفتى هو سمير القنطار المحكوم بعدّة مؤبدات، وبمئات الأعوام (الفرط)، ضمانا لعدم رؤيته للشمس، وتنفسه هواء جبل لبنان...

فجر ذلك اليوم البعيد اقتحمت مجموعة من أربعة فدائيين بقيادة سمير القنطار( نهاريا)، بهدف أسر ما تيسّر من الصهاينة لمبادلتهم بأسرى وأسيرات فلسطينيين...

وقع اشتباك فاستشهد اثنان من أفراد المجموعة، وأسر سمير بعد إصابته، ومعه أحد رفاقه، وقتل في تلك العمليّة عالم نووي صهيوني وابنته، وجرح عدد آخر.

عملية كبيرة حققت اختراقا بحريا بزورق متواضع لم تكتشفه ردارات العدو، حتى وهو يرسو بعد منتصف الليل على شاطىء تلك البلدة الساحليّة ...

يوم 21 نيسان كنت أتوجه إلى الجنوب، مع شاعر فلسطين الكبير(أبوسلمى)، والصديق حنا مقبل، والروائي والصحفي الياباني ماكوتا أودا، لزيارة بعض القواعد الفدائيّة، ولرؤية بعض مناطق فلسطين الجليليّة ولو عن بعد .

وسيارتنا تأخذ طريق النبطيّة مرّت بنا سيّارة بسرعة لافتة، ورأينا يدا تنبثق وهي تهّز بندقيّة كلاشنكوف أخمص حديد.


وبعد أن أوقفنا السيارة مشينا في حرج كبير تفوح منه روائح السرو والصنوبر. سدد قائد الموقع إصبعه في الفضاء، وهو ينبهنا إلى أن ذلك المكان المرتفع، هناك، هي المطلّة الفلسطينيّة، والتي اكتسبت اسمها من علوّها وشموخها في الفضاء، وهو ما جعلها نقطة لقاء بين الأرض والسماء.

التقطنا صورا كثيرة مع شباب كثيرين يرتدون الملابس العسكريّة ، ويحملون الكلاشنكوفات، وتناولنا الغداء معا على الأرض المفروشة بأوراق الصنوبر والسرو.

في صبيحة اليوم التالي، وفي وقت مبكّر، جاءني صوت أحد الأصدقاء، ليخبرني بأن عمليّة كبيرة وقعت في (نهاريا)، وبأن شهداء سقطوا، وقتلى وجرحى غير معروف عددهم في صفوف العدو ...


أطلق على العمليّة اسم القائد جمال عبد الناصر، لتكون تكريما لذكراه، وردّا على كامب ديفد، وتحديا لخّط التسويّة
.

حضر صديقنا ماكوتا أودا من فندق (الفنر هاوس)، وحين رأى الصور فوجىء، ولكنه كصحفي محترف استثمر هذه المصادفة، فكتب ريبورتاجا نشره في الصحافة اليابانيّة، ومن بعد في كتابه ( أنا درت وشفت) .

الصديق حنا مقبل حزن كثيرا وهو يتأمّل صور أبطال العمليّة، فاللذان استشهدا هما الشابان اللذان حرساه بعد محاولة اغتياله التي جرت قبل اسابيع، وكان طلعت يعقوب أمين عام الجبهة هو من كلّفهما بتلك المهمّة النبيلة .

نمت صداقتي مع سمير القنطار وهو في الأسر، فأنا لم أكن أعرفه من قبل...

ذات يوم وصلتني رسالة عبر الصليب الأحمر، وكانت من سمير ، طلب فيها أشياء بسيطة، وتواصلت المراسلة بيننا حتى العام 88 .

ذات مساء رنّ جرس الهاتف في بيتي بعمّان، وسمعت صوتا هامسا :

_ أنا سمير ..سمير ...

وكأنه بهذا التأكيد على اسمه يسألني معاتبا : أنسيتني؟!

ظننت أن أخي سميرا يمزح معي، ولكن الصوت مختلف، وفي ثوان تجلّى سمير أمامي، بقامته المربوعة، وابتسامته التي رأيتها في صور كثيرة نشرت بعد أسره .

_ ياااه ..سمير الحبيب !

لم أسأله كيف عرف رقم هاتفي، وكنت قبل الاتصال الأوّل سمعت أنه اتصل بالشاعر زاهي وهبي، ووجه عبره نداءً لي بالاتصال به. (انقطعت مراسلاتنا عبر الصليب الأحمر بعد رحيلي من دمشق إلى تونس).

سمير القنطّار وهو في السجن درس وتقدّم للشهادة الثانويّة، وبعد أن نجح انتسب للجامعة، ورغم كل ظروف السجن نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسيّة !

وهو في السجن ، وبين الثامنة عشرة و..الثامنة والأربعين، صار سمير القنطار رمزا عربيّا للصمود، والكبرياء، والعزّة ...

وهو عندما يتنفّس هواء الحريّة بعد أيّام، سيعود إلى لبنان مسقط رأسه، وهو قائد كبير لا على مستوى الطائفة الدرزيّة، ولكن على المستوى اللبناني، فهو أكبر من أن يحشر نفسه في إطار طائفي.

سمير القنطار الذي قاد عملية جمال عبد الناصر، وكان ينتمي لجبهة التحرير الفلسطينيّة هو، ومنذ سنوات رمز فلسطيني، فهو لكّل مقاوم ، ومع كل مقاوم يرفض التنازل عن الحّق الفلسطيني...

لبنانيّا سيكون سمير القنطار مع المقاومة التي حررته، والتي خاضت على اسمه حرب تمّوز بعد أن أسرت جنديين صهيونيين ، والتي أوقعت الهزيمة الأولى بالعدو في العام 2000، والهزيمة الثانية في العام 2006 ...

حريّة سمير القنطار ومعه أخوته اللبنانيون الخمسة، وجثامين الشهداء، لبنانيين وفلسطينيين، وتحرير بعض الأسرى الفلسطينيين ، ما كانت لتتحقق لولا ثبات حزب الله، وقائده الصادق العنيد السيّد حسن نصر الله الذي أعلن مرارا وتكرارا أن الجنديين الأسيرين لن يعودا إلى ذويهما إلاّ ..بمفاوضات غير مباشرة و..بتبادل !

وهذا هو الذي سيحدث، ولذا لا غرابة أن يرى قادة أجهزة أمن العدو، وبعض الوزراء، وصحفيون عنصريون، أن تحرير سمير القنطار هو يوم ذّل (لإسرائيل)، ويوم عيد للسيّد حسن نصر الله، وللمقاومة ...

في صفقة التبادل بين حزب الله والكيان الصهيوني عام2004 رفض العدو أن تشمل الصفقة سمير القنطار، ولكن حزب الله لم ينسه، ولذا تمّ أسر الجنديين، واتخذت حكومة أولمرت من عملية الأسر مبررا لشّن حرب على لبنان، بهدف تدمير حزب الله والمقاومة، و.. (تحرير) الجنديين بالقوّة!

اليوم ترتفع الأصوات هناك، محمّلةً حكومة أولمرت وزر ما يحدث، فلو تمّ إطلاق سراح القنطار عام 2004 لما وقعت الحرب، ولما أسر الجنديان، ولما حقق حزب الله هذا الا نتصار الذي يعزز انتصاره في حرب تمّوز 2006 ...

ما وعد به السيّد حسن نصر الله ..ها هو ينجزه.

والشروط التي أرادت حكومة أولمرت فرضها لم يستجب لها، وهي التي تراجعت عن كّل ما طلبته، فالقوي هو من يفرض الشروط، والقوي يأسر جنديين و..يمكن أن يأسر غيرهما!

أولمرت الضعيف المترنّح في أمّس الحاجة لانتصار مهما كان صغيرا، وهو سيحصل على انتصار صغير، أمّا الانتصار الكبير فهو للمقاومة ممثلّة بحزب الله، وقائده السيّد حسن، الذي بهذا الانتصار يعزّز مصداقية وعوده، فهوقائد يفي بما يعد، لا يدّعي، ولا ينسى واجبه، ولا يهرب من مسؤوليّاته ...

قبل أشهر اتصل بي سمير بصوته الهامس الواثق، فداعبته :

_ أخي سمير قريبا تكون في بيتك بجبل لبنان، سنأتي إليك لنفرح بك، وسيكون القرار الجماعي، اللبناني والفلسطيني: أن نزّوجك ونفرح بك، لتنجب لنا مقاومين ومقاومات مثلك، وسأغني لك رغم أن صوتي مش ولا بّد :

عريسنا زين الشباب

ضحك سمير كثيرا : شاب على مقربة من الخمسين يا( أبوالطيّب!

_ تذكّر أيها العزيز أنك أصغر من مانديلا بأربعين عاما، وأنك تكاد تفوقه في سنوات سجنك، ومع ذلك فقد تزوّج من جديد !...

انتظرناك طويلاً ، وها هي بشائر الحريّة تهّل...

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

بعد فراق طويل التقيت مع سمير القنطار وكأني لم أفارقه إلا بالأمس.
مازال كما رأيته وعرفته في مكتب الأرض المحتلة، وقرأت لرشاد وكأني مازلت أساهره ويساهرني ونحن ننضد ونطبع مجلة الأفق، في مطبعة الجبهة لتخرج إلى الناس قبل طلوع النهار.
متى يطلع النهار من جديد ولكن ونحن نتناول الفطور في شوارع القدس المحررة ياترى؟
أبو فراس سعيد