2008/06/28

رجل ولا كل الرجال

بقلم : خالد منصور

كان اسمه يتردد كثيرا في بيتنا وينال ذكره في كل مرة عظيم الهيبة والاحترام.. سالت عن ذلك الرجل، ووددت لو أتعرف أكثر على شخصيته.. وأثناء بحثي اكتشفت أن اسم عبــّــود الذي حمله وعرفه به كل الناس-- ما هو إلا اسم حركي لازمه طوال سنين العمل الثوري المقاوم.. أما اسمه الحقيقي فكان محمد إبراهيم أبو خليل ( أبو إبراهيم )، وهو زيناتي ولد في العام 1931وعاش أولى سنين شبابه في بلدة أم الزينات على سفوح جبل الكرمل، حيث كان منزل عائلته هناك مجاورا لمنزل عائلتنا، وقد أفادني عمي أبو منصور الذي كان صديق الصبا لعبود وزميل دراسته انه ( أي عبود ) كان ذكي بامتياز وانه وإياه قد أكملا الدراسة في مدارس أم الزينات حتى الصف السابع.. لكن حصول النكبة في العام 1948 حرم عبود من فرصة إكمال الدراسة كما حرمه العيش في ارض آبائه وأجداده.

وكان أول لقاء لي به في العام 1995، وذلك بعد توقيع اتفاق اوسلو، الذي بموجبه دخل إلى ارض الوطن آلاف من العائدين.. وفي ذلك العام جاء عبود لزيارتنا في مخيم الفارعة كصديق لعائلتنا.. وكان برفقته رجل آخر اكبر منه سنا عرفت فيما بعد انه مقاتل فلسطيني قديم اسمه عمر الديسي.. يومها كانت فرصتي للجلوس مع هذا الرجل العملاق لأتمعن في وجههه واستمع لأحاديثه بشغف.. عندها وجدت بعبود رجلا ولا كل الرجال يفرض عليك الاستماع إليه ويأسرك ببساطته وحكمته .. ريفي قوي الشكيمة تجاعيد وجهه تدل على عظم الأهوال والخطوب التي مر بها في حياته.. كان بسيطا جدا بتعامله، وكنت الحظ انه يستمتع في الجلسة أكثر عندما يكون الحديث منصبا على الماضي البعيد، وعن ذكريات الحياة ما قبل حصول النكبة.. كان قليلا ما يتحدث عن ثلاثة عقود من حياته ( 65 – 95 ) أمضاها مقاتلا وقائدا ومسئولا.. لم يكن يتحدث عن علاقاته بقيادات مرحلة ما بعد اوسلو، ويقوم وبشكل واضح بتغيير الحديث كلما توسعنا في النقاش حول الوضع السياسي الراهن وعن المستقبل وفرص إقامة الدولة..

بعد تلك الزيارة التي قام بها عبود لمنزلنا التقيت به العديد من المرات-- سواء في منزله ببلدة برقين جنوبي مدينة جنين، أو في مكتبه في مقر محافظة جنين-- حيث كان مكتبه هناك يعج دوما بالزوار، وسالت فعرفت أنهم جميعا من أصدقائه القدامى أو من أبناء أصدقائه.. فعبود عاش بعد النكبة في منطقة جنين، وكون فيها علاقات وثيقة بمعظم وجوه المنطقة وزعاماتها.. فقد كان رجلا يحسب الجميع له ألف حساب، ويدركون قدراته ويسعون إلى كسب صداقته.. فهو كان يكره الظلم ويمقت الظالمين-- وخصوصا بعد أن طاله ظلم الصهاينة وحوله إلى لاجئ وافقده وعائلته كل ما كانوا يملكون.. عبود كان وطنيا بالفطرة ويكره الاحتلال والصهاينة من أعماق أعماقه، وكان مستعدا لفعل أي شيء ليرد للغاصبين الطعنة التي طعنوه وشعبه بها، باحتلالهم أرضه وتشريدهم أهلها.. كان رجلا شجاعا، قلبه من حديد، لا يعرف الخوف أبدا.. لدرجة انه كان يغامر دوما بحياته ليعبر الحدود والأسلاك الشائكة ويتجاوز كمائن المحتلين، ليصل إلى عمق الأراضي المحتلة.. ويصل حتى إلى مسقط رأسه أم الزينات، وقد قال لي يوما خلال رحلة لي معه قادتنا إلى أم الزينات : اسمع يا عمي أنا كنت آتي إلى أم الزينات دوما.. وأبيت في أوديتها ومغائرها وأحراشها وحيدا وامضي فيها أيام وأسابيع..

وما أن بدا الثوار يجمعون صفوفهم ليطلقوا الثورة الفلسطينية المعاصرة إلا وكان عبود في مقدمتهم، حيث التحق بهم في حركة فتح ليوظف معهم كل قدراته ومواهبه ويضعها كلها في خدمة الثورة ومن اجل تدعيمها.. وبذلك يكون قد حدث تطور كبير في حياة هذا الرجل الكبير، جعله يغادر مرحلة العمل الفردي، ليصبح جزء من جسم ثوري وعمل جماعي أكثر تنظيما، وينخرط مباشرة في كل المعارك والمواجهات التي خاضتها الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال، ( وقد علمت انه كان مشاركا فعليا في أولى العمليات التي نفذتها حركة فتح ).. وبسبب شجاعته وإقدامه وجرأته المنقطعة النظير.. وبسبب استقامته ونزاهته وأخلاقه العالية جدا.. اكتسب أبو إبراهيم ( عبود ) محبة كل المقاتلين الذين عملوا معه وتحت إمرته، وكان اسمه مرعبا لكل الأعداء والانتهازيين..

عاد عبود مع العائدين وكان اختياره للسكن والإقامة في بلدة برقين ذو دلالات كثيرة.. أهمها رغبته بالابتعاد عن السياسة التي كان يقول عنها أنها تلوث الإنسان وتفسده، وكان يعتبر أن هذه المرحلة ( اوسلو ) مرحلة جديدة ليس لمثله مكان في قيادتها، وهو الذي اعتاد أن يحاور العدو بالسلاح في ميدان المعارك.. وقد حاول أبو إبراهيم قدر استطاعته عدم الاقتراب من لاعبي السياسة في تلك المرحلة ( أي بعد اوسلو ) لأنه وكما قال لي يوما مقتنع بان اوسلو جاء كممر إجباري، وهو غير واثق بان ذلك الممر الإجباري سيوصل شعبنا إلى بر الأمان، حيث تتحقق له أهدافه التي ناضل وضحى من اجلها.. لقد أراد عبود الذي عاد إلى ارض الوطن وهو قد تجاوز أل 64 من عمره أن يمضي ما تبقى من عمره قريبا من الناس الذين أحبوه ويحاول مساعدة كل من هم بحاجة للمساعدة.. وابتعد كثيرا عن المظاهر رغم انه حمل رتبة عسكرية قد تكون من أعلى الرتب العسكرية في حينها ( عميد ومن ثم لواء ) وظل رجلا شعبيا يفتح مكتبه وبيته في وجه كل الناس..

رحل أبو إبراهيم-- عبود-- بصمت وهدوء، نعته الصحف، وفتحت له الرئاسة بيت عزاء في رام الله، وفتح له أبناؤه بيت عزاء آخر في منزله ببرقين، وذهبت أنا وعائلتي إلى برقين لتقديم واجب العزاء، وهناك رأيت بيت عزاء مهيب جدا.. حيث الوفود تأتي إليه من كل أرجاء الوطن، إكراما له ولتاريخه الحافل بالنضالات، وكان الحزن باديا جليا على كل الوجوه..

وهكذا تنطوي صفحة رجل يجب أن يخلد اسمه في سجلات الشرف، وان تحفظ ذكراه وتكتب سيرته وتعمم لتعرف الأجيال القادمة، شيئا عن حياة رجل مكافح وطني مخلص نزيه نظيف اليد والقلب.. رجل أحب فلسطين وكان مستعدا لدفع حياته ثمنا لها، وخاض في سبيلها عشرات المعارك، ( واعتقد أنا جازما أن عبود كان يتمنى لو نال الشهادة في القتال بدلا من أن يموت صريع المرض الذي داهم قلبه ولازمه لعدة سنين ).



مخيم الفارعة

20/6/2008

ليست هناك تعليقات: